الأهراممقالات صحفيةموضوعات عامـــة

عسكرى من الجامعة الأمريكية

هناك أشياء بسيطة، قد يعتبرها البعض، إلا أننى أومن بأن النجاح الحقيقى هو تجميع لكل هذه الأشياء الصغيرة، التى تعطيك، فى النهاية، صورة متكاملة رائعة للعمل الذى قمت به. أقول ذلك وأنا أتذكر فترة رئاستى الشئون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، التى تعد العلاقات العامة، واحدة من المهام العديدة الموكولة إليها، فتكون، بذلك، مسئولة عن استقبال جميع ضيوف القوات المسلحة المصرية، سواء العسكريون بمختلف رتبهم، أو حتى المدنيون، ويشمل الاستقبال جميع تفاصيل إقامة وتحركات الضيوف، وغير ذلك من مراسم. خلال هذه الفترة، التى عملت بها مديرا للشئون المعنوية، كان المشير حسين طنطاوي، وزير الدفاع آنذاك، قد أصدر أوامره بضم جميع المجندين من المؤهلات العليا للخدمة فى التشكيلات المقاتلة، إذ رأى أن امتلاك القوات المسلحة المصرية للدبابةM1A1، وهى أحدث دبابة فى العالم التى يصل سعرها إلى بعض الملايين من الدولارات، يستوجب أن تتكون أطقمها من حملة الشهادات الجامعية، خاصة المهندسين. وبالتالي، لم يتسن لأى من أصحاب المؤهلات العليا، فرصة الخدمة فى إدارات القاهرة. أذكر تلك الأحداث، لأنه عند انتهائى من إنشاء المركز الإعلامى العسكري، فى إدارة الشئون المعنوية، وكان مقررا أن يفتتحه السيد رئيس الجمهورية الأسبق، وتنقل مراسم الافتتاح على الهواء مباشرة، لمدة 3 ساعات متواصلة، باعتباره أول وأكبر مركز إعلامى فى الشرق الأوسط. واستعدادا لهذا الحدث، طلبت من المشير طنطاوى الموافقة على ضم 3 جنود، من خريجى الجامعة الأمريكية، للعمل فى هذا المركز، نظرا لطبيعة العمل به، والتى تحتاج إلى إتقان اللغات الأجنبية … وبعد إلحاح، حصلت على الموافقة على طلبي، وتم اختبار عدد من الجنود، واختيار ثلاثة منهم للانضمام للمركز الإعلامى العسكري. بعدها بيومين، كانت إدارة الشئون المعنوية على موعد لاستقبال زيارة غاية فى الأهمية لقواتنا المسلحة، وهو وزير الدفاع الألمانى وقرينته.وبالطبع كانت إدارة الشئون المعنوية مسئولة عن ترتيبات الاستقبال للضيف الألماني، وترتيبات إقامته وتحركاته؛ وكعادتي، وقبل يوم الزيارة،نزلت بنفسى للتفتيش على السيارات المعدة لاستخدام الضيوف. وهو أمر يتعلق بطبيعتى الشخصية، إذ لا أكتفى بسماع كلمة «كله تمام يا أفندم»، إنما أفضل التأكد بنفسى من حين لآخر. وبالفعل، تأكدت من وجود خرائط مصر داخل السيارة، وكتب الدعاية بلغة الضيف، وكذلك تأكدت من تحقيق المطالب الشخصية للضيف، وكلها أشياء قد تجدها بسيطة، لكنها أساسية. ثم تحدثت مع السائق قليلا، ورغم معرفتى به، وهو سائق متطوع فى القوات المسلحة منذ عشرين عاما، وكل تقاريره ممتازة، وبالرغم من نظافة وأناقة بدلته، إلا أننى شعرت بأن هذه المهمة غير مناسبة له، خاصة عندما تذكرت المجندين الجدد الذين انضموا أخيرا للمركز الإعلامى العسكري، فقد كانت وجهة نظرى تدور حول تقديم تجربة متكاملة للضيف الألمانى فى زيارته لمصر، خاصة فى ظل اصطحابه قرينته. وعلى الفور سألت عنهم، وحضر الجنود الثلاثة، فسألتهم عما إذا كان أى منهم يتحدث الألمانية بجانب الإنجليزية التى يجيدونها، فاتضح أن أحدهم يتحدثها بطلاقة، نظراً لأصول جدته الألمانية، ودراسته فى ألمانيا لمدة عامين، قبل انضمامه للجامعة الأمريكية بالقاهرة. فوقع اختيارى عليه، وأعطيته الأوامر بنفسي، بأن يرتدى زيه المدني، ويكون فى صحبة قرينة وزير الدفاع الألماني، طيلة مدة الزيارة.

مرت أيام الزيارة الثلاثة على ما يرام، وفى يومها الأخير، جرت التقاليد على أن يقيم السيد وزير الدفاع المصري، مأدبة عشاء رسمية، للضيف الألمانى وقرينته والوفد المرافق له، ويحضرها بالطبع القادة المصريون وزوجاتهم. وخلال العشاء، لاحظت تكرار نظرات المشير طنطاوى وابتسامته لي، أثناء حديثه مع الوزير الألمانى وحرمه، اللذين يجلسان بجواره على المائدة الرئيسية. وبعد انتهاء الاحتفال، ومغادرة الضيوف، نادانى المشير، أمام الحاضرين من الجانب المصري، وهو يقول «يا سمير … إحنا العساكر بتوعنا بيتكلموا ألماني؟ … العساكر بتوعنا عارفين أن برنامج الأوبرا السيمفونى فيه فاجنز؟»، مضيفا، أن وزير الدفاع الألمانى وزوجته لم يكن لهم حديث إلا عن مستوى الجندى المصري،الذى يتحدث الألمانية بطلاقة، وعلى دراية كاملة ببرنامج الأوبرا، ومختلف أنواع الفنون التى تعرض بها.

وكنت أعلم ما تم خلال أيام الزيارة. فقد نفذ الجندى المصرى التعليمات، واصطحب قرينة الوزير الألمانى أثناء زياراتها لمعالم القاهرة، وكان معها بالطبع، قرينة السفير الألماني، التى لم يكن قد مر على وصولها إلى القاهرة أكثر من أسبوع، آنذاك، ولم يكتف بقيادة السيارة المخصصة لهم فقط، بل تولى الشرح والحديث عن المعالم والمبانى التى يمرون بها، بلغة ألمانية سليمة؛ فعند مرورهم على مبنى البرلمان المصري، لم يكتف بتعريفهم باسم المبني، بل استرسل فى شرح الفرق بينه وبين البوندستاج الألماني، والفرق بين دستورى البلدين، ونظام الحكم فيهما، وشكل الحكومات.وعند مرورهم على دار الكتب المصرية، وضح لهم أنها تتفوق على مثيلتها فى برلين بعدد الكتب والوثائق. ومروا من أمام دار الأوبرا المصرية، فعرفهم أنها ستقدم فى تلك الليلة افتتاحية فاجنز، ويليه باليه اسبرتاكوس. وعندما حل موعد الغداء، عرفهم بأشهر الأطباق المصرية، ونصحهم بتناول الحمام المحشي، والملوخية، وورق العنب. وقص عليهم القصة التراثية المتعارف عليها عن نشأة «أم علي»، واعتبارها أحد أشهر أطباق الحلويات فى مصر. فكان لهم، خير رفيق.

ما أهمنى فى ذلك، لم يكن، فقط، أن الوزير الألمانى وأسرته، قد غادرا مصر بأجمل الانطباعات عنها وعن الجندى المصرى الذى يتحدث الألمانية بطلاقة، ومثقف فى المجالات الفنية والثقافية والسياسية، بل أهمنى حصولى على تصديق بضم خمسة مجندين جدد، من خريجى الجامعة الأمريكية، إلى إدارة الشئون المعنوية، وهو ما كان خير دليل على نجاح تجربتى مع الوزير الألمانى، والتى تكررت بعدها بأيام مع وزير الدفاع الأمريكى، ويليام كوهين، والتى قامت بالأساس على التوظيف الأمثل للموارد، وهو ما ينقصنا فى مختلف المجالات، فمصر غنية بإمكاناتها ومواردها، ولكن ينقصنا استخدامها وتوظيفها بما فيه صالح البلد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى