عندما قرأت الفاتحة فى المقابر
تخرجت فى كلية أركان حرب، قبل شهر واحد من حرب أكتوبر 1973 … وكمكافأة لى على تفوقي، وحصولى على المركز الأول بين زملاء دفعتي، تم توزيعى على هيئة عمليات القوات المسلحة المصرية، لأنال شرف مشاركتى فى حرب أكتوبر 1973، من داخل غرفة عملياتها.
كنت، كمثلي، من ضباط وجنود القوات المسلحة المصرية، الذين ثمّنوا قرار الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بطرد الخبراء الروس قبل الحرب، وإلا لنُسب لهم الانتصار الذى حققناه فى الحرب، بفكر وأياد مصرية. وكنت، كذلك، ممن أثنوا على قراره بالانفتاح العلمى ـ العسكرى للقوات المسلحة، بعد عشرين عاماً، أقتصرت خلالها البعثات العسكرية على الاتحاد السوفيتي، دون غيره.
وفور انتهاء أعمال القتال فى حرب أكتوبر 1973، وما حققته قواتنا من نصر سجله التاريخ، تحدد موعد أول بعثة عسكرية مصرية للخارج، تحديداً إلى الهند، للدراسة فى كلية أركان حرب. وبصفتى أول خريجى الكلية المصرية، فقد وقع على الاختيار للدراسة فى الهند، وصدر قرار السفر الخاص بى … وبالفعل هنأنى جميع زملائى وقادتي، وبدأت الاستعداد للسفر خلال ثلاثة أيام، بما فيها الاستعدادات والتجهيزات الخاصة بأسرتي، التى سأغيب عنها لمدة عام ونصف العام، فتطلب ذلك أن تنتقل زوجتى وأطفالى إلى بيت والدها للإقامة هناك، وأن أتخذ الإجراءات اللازمة لإغلاق منزلى الخاص، وما يرتبط بذلك من تعديل روتين الحياة اليومية لأسرتي، كالمدارس وغيرها.
وفجأة حضر إلى القيادة العامة اللواء فؤاد عزيز غالي، من قيادة الجيش الثاني، معترضاً على عدم اختيار المقدم ناجى لهذه البعثة، وهو الجندى البطل، قائد الكتيبة التى حررت مدينة القنطرة، أثناء الحرب فأمر المشير أحمد إسماعيل باستبدالى بالمقدم ناجي، وسادت حالة من الوجوم فى القيادة العامة … من سيبلغنى الخبر؟ وما هى مبرراته؟ فكلانا يستحق البعثة الدراسية، ولكن شروطها لا تسمح سوى بفرد واحد.
المهم تم إبلاغى بالخبر، وكان وقعه على كالصاعقة … واستأذنت الفريق الجمسى فى الانصراف، لأعيد أسرتى مرة أخرى إلى المنزل، وأعيد ما كان من ترتيبات إلى وضعه الطبيعي. لا أنكر أن الإحباط واليأس سيطرا علي، بعد أن ضاعت فرصتى فى تحصيل المزيد من العلوم العسكرية التى تفوقت فيها … فدخلت غرفتي، محاولاً الخلود للنوم، ولكن الحزن والألم كانا يعتصراني، وفشلت محاولات زوجتى فى التخفيف عني، فما كان منها إلا أن اتصلت بوالدي، الذى حضر إلى منزلنا على الفور، ودخل غرفتي، وطلب منى الاستعداد للتوجه إلى «مشوار». لم يتكلم كثيراً، ولم يسألنى عن شئ، أو يناقشنى فى أمر … ولم أسأله عن وجهتنا، إلا بعدما ركبنا سيارتى الصغيرة، فقال «اطلع بينا على طريق صلاح سالم» … فتحركت على الطريق، والصمت يسود الموقف.
مررنا بمنطقة المقابر على طريق صلاح سالم، وعندها طلب والدى أن أتجه ناحيتها، واصفاً لى الوجهة تماماً … يمين … شمال … يمين، حتى وصلنا إلى مدفن كبير، فطلب منى التوقف. توقفت بالفعل، بالرغم من تعجبي، ويقينى من أن المدفن لا يخصنا … فمدافن عائلتى فى مدينة بورسعيد. نزل والدي، وأنا معه، وجاءنا حارس المدفن، فطلب منه والدى أن يفتح الباب … ووقفنا أمام المشهد المُشّيد من أفخر أنواع الرخام الأبيض، المنقوش عليه بماء الذهب «المغفور له فلان فلان باشا» وطلب والدى قراءة الفاتحة على روحه، قبل أن يستدير إلى قائلاً يبدو أنه كان له من الأموال والمناصب ما مكنه من بناء هذا المدفن الضخم … ولكن أين هو الآن من الثروة والمنصب … يرقد فى تلك الحفرة الصغيرة، مثلما سنعود إليها جميعاً، ثم ربت على كتفي، واحتضنني، مستطرداً أمر الله كله خير … فلا تحزن على ما فاتك فى الدنيا، ولا تتعجل الخير … فمهما تأخر عليك، كن على يقين أنه قادم. ثم عدنا إلى سيارتي، ومنها إلى منزلي، وأنا أردد كلماته فى ذهني.
ومرت الأيام … وانتهت أعمال القتال … وانتظمنا فى مبانى وزارة الدفاع … وفى صباح أحد الأيام، وأنا أعبر البوابة فى طريق دخولى للمبنى، بادرنى أحد أفراد الشرطة العسكرية يا أفندم … رئيس الهيئة يريدك فى مكتبه فوراً … ولم أكد أصل نقطة التفتيش الثانية، حتى سمعت نفس الكلام مرة أخرى، فراجعت نفسى فوراً، خشية أن أكون قد ارتكبت خطأ ما ظلت الأحداث تمر فى ذهني، خلال الدقائق التى استغرقتها للوصول إلى مكتب اللواء الجريدلي، دون أن أتوصل إلى سبب استدعائي. وما أن دخلت مكتب سيادته، حتى إطمأننت قليلاً، إذ رأيت ابتسامة تعلو وجهه، قبل أن يقول لى مبروك … لقد تم اختيارك لبعثة كلية كمبرلى الملكية فى المملكة المتحدة … إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً … ثم أمرنى بالتوجه لمكتب الفريق الجمسي، الذى كان حريصاً على إبلاغى الخبر، وتهنئتى عليه. هالتنى المفاجأة، وأثرنى تكريم … فأنا الضابط الصغير برتبة رائد، سيقابل رئيس الأركان، الحريص على تهنئته بنفسه. هرولت إلى مكتب الفريق الجمسى وتلقيت تهنئته، واستمعت لكلماته التشجيعية لي.
ثم عدت إلى الفرع، فوجدت جميع زملائى سعداء بعدما وصل إليهم الخبر، ودعانا يومها اللواء عاطف عبد الغفار، رئيس الفرع، على وجبة إفطار من سندوتشات الفول والطعمية، احتفالاً بانضمامى إلى أكبر كلية عسكرية فى العالم أكملت يومى فى الفرع، قبل أن أتوجه إلى منزلى فى المساء، لأزف إلى أسرتى تلك الأنباء، ولننهي، الاستعدادات، مرة أخرى، المرتبطة بغيابى لمدة عام ونصف العام . لم أنس نظرات والدي، فى هذا اليوم، وهو يحتضننى دونما كلمة واحدة … ولا أنسى الدموع فى عين والدتي، التى بالرغم من فرحتها وفخرها بي، إلا أنها لا تطيق بعدى عنها.
واليوم … فى كل مرة أمر فيها من طريق صلاح سالم، لا يفوتنى قراءة الفاتحة لأرواح موتانا، ولروح أبى الذى علمني، هناك، درساً جديداً من دروس الحياة.