القُرنة
و«الجُرنة» كلهجة أهالى الأقصر هى منطقة تقع فى البر الغربى للمدينة، وهى ما كانت منطقة للمقابر فى زمن الفراعنة، نظراً لارتفاع الأراضى فيها، فلا تغمرها مياه الفيضان، فكان من عظمة المصريين القدماء أن خصصوها لمقابر الملوك فى الجهة اليمنى منها، وأشهرها مقبرة الملك توت عنخ آمون، ومقابر الملكات فى جهتها اليسرى، ومن أشهرها مقبرة الملكة نفرتارى فيما توسطتهم مقابر النبلاء، وعددها 94 مقبرة.
للأسف «حف الأهالى، بعشوائية، إلى تلك المنطقة، واستوطن نحو 80 أسرة 48 مقبرة من مقابر النبلاء فقام، آنذاك، العبقرى حسن فتحى، مهندس الفقراء» كما يطلق عليه فى جميع المراجع العالمية، ببناء قرية، تحمل اسمه، على ضفاف نيل البر الغربي، لتنتقل إليها تلك الأسر، إلا أن الأهالى رفضوا إخلاء «الجُرنة» متعللين بأن مواشيهم، خاصة جمالهم، لا تستطيع دخول المبانى فى القرية الجديدة!! وظلت «قرية حسن فتحى» خاوية، وصارت الآن مزاراً عالمياً لطلاب الهندسة وفن العمارة من جميع أنحاء العالم.
عندما وصلت إلى الأقصر، كان عدد الأسر قد تضاعف عشرات المرات حتى وصل إلى 3200 أسرة. وذهبت لتفقد المنطقة، فهالنى ما رأيت المنازل، مشيدة فوق المقابر، المنطقة خالية من الخدمات، سواء الكهرباء أو المياه أو الصرف الصحى، بعض الأهالى استغل المقبرة التى أسس بيته عليها لتكون مصرفاً صحياً والبعض الآخر استغلها كمزار سياحي، يحصل عليه أجراً من السياح للزيارة، كانت البشاعة هى سمة المشهد، ورأيت أنها وصمة عار على جبين مصر والمصريين.
لم يكن من مهام المحافظ أن يتولى نقل الأهالى، ولكن كمصرى غيور على وطنه، وأبنائه، وتراثه، اتخذت قراراً بتنفيذ المهمة، وما فيه من صالح الأهالى بتوفير حياة كريمة لهم، ولما فيه من صالح الوطن بالحفاظ على ثرواته ووجدت غايتى فى مكان جديد خارج المنطقة الأثرية، يبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن المكان الحالى فبدأت التخطيط لبناء قرية، سميتها «القُرنة الجديدة» تتوافر فيها جميع الحقوق الأساسية لأى مواطن من كهرباء ومياه وصرف صحى، بل كانت أولى قرى الصعيد التى وصل إليها الغاز الطبيعى فضلاً عن توفير خدمات إضافية لم يحظ بها أهالى المنطقة من قبل، فشملت الخطة بناء مدرستين، إحداهما للغات، علماً بأن أبناء القرية لم يذهبوا للمدارس من قبل، نظراً لبعد المسافة، وعدم وجود وسيلة مواصلات. كما تقرر بناء نادٍ اجتماعى وثقافي، ووحدة صحية، ومكتب للبريد، ومركز للشرطة.
راعيت أن أوفر فى «القُرنة الجديدة» ما يتناسب مع طبائع وعادات الأهالى، فالعائلات هناك تنام فى الغرف المغلقة لمدة شهرين فى العام، ونظراً لارتفاع درجات الحرارة، يلجأون لأحواش مفتوحة فى باقى الشهور، فحرصت على أن يحتوى كل منزل على غرفتى نوم وصالة ومطبخ وحمام، ثم حوش مناسب لمختلف استخدامات الأهالي. إضافة إلى تجميع النجوع الأربعة، كل واحد منها فى مكان متكامل، له مسجد، وديوان خاص للمراسم العائلية.
وبدأ البناء بتنفيذ وإشراف من القوات المسلحة المصرية، وبدأت التصميمات تتحول إلى واقع. وعلمت أن عدداً من الأهالى يزور موقع البناء، سراً، فى جنح الليل وبدأت فى تلقى رسائل مجّهلة، مفاداها أن الأهالى مصرون على البقاء فى أماكنهم، بالرغم مما توفره لهم هذه القرية من سكن دائم، بعقود تمليك مسجلة، فكان من ضمن الرسائل «سنحاكم بإهدار المال العام لأننا لن نتحرك» وأخرى تقول «نحن من حافظنا على هذه المقابر حتى اليوم وعليها عرق أبويا وجدى» وغيرها من الرسائل.
لم يكن قرارى مقصورا على تخطيط وبناء القرية، ولكنه قام على بعدٍ اجتماعى، يهدف إلى إقناع الأهالى بالانتقال إليها، فما أن بدأت بوادر القرية الجديدة تظهر، حتى شرعت فى تنفيذ الوجه الآخر من قراري. بدأت بالشباب أتقرب إليهم من خلال مشاركتهم يومياً فى مباريات كرة القدم، وما أن ننتهي، حتى نجلس لنتسامر، فأحدثهم عن القرية الجديدة ومميزاتها .. فالمنازل مجهزة بالتليفزيون، والثلاجة، والغسالة، وحتى خدمات الإنترنت كما أنها توفر عليهم المال والمجهود فى الحصول على المياه، إذ كانوا يتحصلون على برميل المياه النظيفة بسعر 25 جنيهاً، ولا يكاد يكفى سد احتياجاتهم الأساسية . وتدريجياً بدأ الشباب فى الاقتناع.
انتقلت إلى الجولة الثانية، ومن خلال مشروع الرائدات الريفيات، نجحت فى إقناع نساء القرية، بحقهن فى حياة كريمة لهن ولأسرهن، بما يضمن لهم التعليم والرعاية الصحية، وتيقنت بذلك من حسم معركتى مع الآباء الرافضين لفكرة الانتقال إلى مكان جديد، بنتيجة (2-1). ولا يفوتنى ذكر، والإشادة بمجهودات، فضيلة الشيخ محمد الطيب، كبير البر الغربى، والأخ الأكبر لى ولفضيلة الدكتور أحمد الطيب، الذى كان يشغل منصب رئيس جامعة الأزهر، حينئذ، قبل تربعه على قمة الأزهر، اللذين تحمسا للفكرة منذ ولادتها، ولم يدخرا جهداً فى الاجتماع بالأهالى يومى الخميس والجمعة من كل أسبوع، لإقناعهم بالانتقال للقرية الجديدة، وإرشادهم إلى ما يعود عليهم وعلى بلادنا بالنفع، كما تعاونا مع المجلس المحلى فى تسكين العائلات المقتنعة بالانتقال فى «القُرنة الجديدة».
وبالرغم من المعارضة الشديدة فى البداية، فإنه، بتوفيق من الله، تم تنفيذ الخطة بشقيها، فتم نقل الأسر إلى «القُرنة الجديدة» وتمت إزالة المنازل العشوائية عن منطقة المقابر الأثرية، وتسليمها لوزارة الآثار، لإعادة تأهيلها كواحدة من أهم المزارات السياحية فى العالم.