فى هدوء … رحل صلاح فهمى
فى هدوء رحل صلاح فهمى وفى هدوء سار فى جنازته بضع عشرات من أفراد أسرته وفى هدوء أقيم العزاء فى مسجد المشير، بحضور أفراد أسرته وبعض زملائه من القوات المسلحة بلا كاميرات وبلا أعلام كان الهدوء هو السمة الغالبة.
وتذكرت، فوراً، أن العظيمة كريمة مختار قد رحلت عن عالمنا فى ذات الأسبوع فانتبه جميع شعب مصر إلى تلك الخسارة الكبيرة فالراحلة صاحبة مشوار فنى طويل امتعت خلاله الشعب المصرى والعربى بكل ما قدمته … وحفرت فى وجداننا ذكريات عطرة، وتعلقنا بالإذاعة، منذ الطفولة، لنتابع مسلسلاتها فى تمام الخامسة والربع من مساء كل يوم، خاصة مسلسل «العسل المر». فوجدتنى أسأل نفسى، عما إذا كانت جموع الشعب المصرى قد علمت، أن العميد أركان حرب صلاح فهمى نحلة قد رحل؟
ألم يكن واحداً من أبطال مجموعة التخطيط لحرب أكتوبر 73؟ لقد كان أحد أيام السبت من شهر مايو 1973، عندما استدعى اللواء الجمسى، رئيس عمليات القوات المسلحة، العقيد صلاح فهمى، ليكلفه بمهمة واضحة … مهمة سرية وغاية فى الحساسية … فلقد كلفه اللواء الجمسى بتحديد موعد الهجوم على خط بارليف، بالتعاون مع القوات السورية، محدداً الشهر، واليوم، والساعة المناسبة من وجهة نظر العسكرية المصرية. وانطلق صلاح فهمى حاملاً، على كتفيه، مهمة تنفيذ ذلك التكليف. وضع العقيد صلاح فهمى خطة دقيقة لنوعية وطبيعة المعلومات التى يحتاجها لتنفيذ مهمته باختيار التوقيت، وحدد عدد من الوجهات لإمداده بما يحتاج من معلومات أو بيانات، كل فى مجال تخصصه.فتوجه إلى مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، ليحصل على مواعيد الأعياد والعطلات الرسمية فى إسرائيل … وتوقيتات اجتماعات الكنيست … وسُلطات اتخاذ القرارات المصرية. وتوجه إلى هيئة الأرصاد ليعرف حسابات ساعات الليل والنهار … واتجاهات التيار فى قناة السويس.
كما التقى بمسئولى المخابرات للتعرف على خطط الدفاعات الإسرائيلية، وتوقيتات تدخل الاحتياطيات، ونظام استدعاء الجيش الإسرائيلي، وغير ذلك من المعلومات التى تحتاج إلى كتيب كامل لرصدها. هذافضلاً عن متابعته واطلاعه على العديد من الإصدارات الصحفية الإسرائيلية خلال الأشهر الأخيرة. وفى نهاية الأسبوع استدعاه اللواء الجمسى، مرة أخرى، للاستعلام عن موعد تسليم التقرير الخاص بتحديد موعد الهجوم، حيث أن الرئيس السادات سيجتمع مع الرئيس السورى حافظ الأسد للاتفاق على موعد الهجوم المشترك للقوات المصرية والسورية على القوات الإسرائيلية، ووعده العقيد صلاح فهمي، أن يسلم التقرير يوم السبت. وخرج العقيد فهمى من مكتب اللواء الجمسي، متوجهاً إلى منزله مباشرة لكتابة نقاط تقريره، تجنباً لأن يراه أى زميل فى المكتب. وفى منزله، بحث عن أوراق ليرتب عليها أفكاره، فلم يجد سوى كراسة دراسية خاصة بابنته، مكتوب عليها اسمها، «حنان صلاح فهمى»، فقلبها، ليستخدم ما تبقى من أوراقها من الناحية الأخرى، كمسودة مبدئية، وبدأ فى كتابة نقاط تحليله … لماذا يوم السادس من أكتوبر … ولماذا الساعة الثانية ظهراً … وعرض رؤيته المدعومة بالمعلومات والبيانات الموثقة.
ولما كان يوم السبت، توجه إلى مكتبه فى الصباح، لصياغة التقرير فى صورته النهائية قبل تسليمه، فأخبروه على البوابة بأن اللواء الجمسى يطلبه على عجل، فتوجه إلى المكتب مسرعاً، وأخبر اللواء الجمسى بأنه وصل للفكرة، ولم يتبق إلا صياغتها بصورة نهائية للعرض. فنظر اللواء الجمسى إلى «الكراسة»، وطلب منه شرح الفكرة، وما أن انتهى من عرضها، حتى التقط اللواء الجمسى «الكراسة»، وتوجه بها إلى الفريق الشاذلي، رئيس الأركان، الذى وافق على المقترح، وصعد إلى الدور الثانى، حيث مكتب المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية، وعرض عليه التحليل. بعد أقل من ساعتين كانت «الكراسة» فى يد الرئيس السادات، والمشير أحمد إسماعيل يعرض عليه التحليل.
واحتفظ الرئيس السادات بكراسة حنان صلاح فهمي، المدون بها مقترح توقيت الحرب، حتى يوم لقائه بالرئيس الأسد بالإسكندرية، والذى تم فيه الموافقة على موعد الهجوم العربى يوم السادس من أكتوبر فى تمام الثانية ظهراً. ومثلما كانت تلك المهمة واحدة من أعظم مهام العقيد صلاح فتحى قبيل حرب أكتوبر 73، فقد كان له أفكار أخرى، لا تقل أهمية، وتم تنفيذها أثناء الحرب، مثل فكرة غلق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، والتى كانت واحدة من أعظم مفاجآت الحرب، التى وقعت على العدو كالصاعقة وأربكت جميع حساباته. ففى سرية تامة، توجه العقيد صلاح فهمي، واللواء بحرى محسن حمدى إلى اليمن، تحت شعار مستثمرين ورجال أعمال، وتم وضع الخطة اللوجيستية لتأمين عمل المدمرات والغواصات ولنشات الصواريخ فى منطقة باب المندب، والتى جعلت من ميناء إيلات الإسرائيلي، ميناء مهجوراً طوال أيام القتال، وفقد العدو، بذلك، أهم منفذ له على البحر الأحمر، إلى جنوب شرق آسيا، والصين واليابان. وقد كانت هذه الخطة، التى تم الإعلان عنها فى الثانية إلا الربع من ظهر يوم السادس من أكتوبر، قبيل الهجوم المصرى-السورى، واحدة من مساهمات العقيد صلاح فهمى فى خطة العبور.
وعموماً ستمضى الأيام وسنة الحياة أن يرحل العظماء ممن خططوا ونفذوا عمليات حرب أكتوبر 73 حرب العزة والكرامة الحرب التى أعادت الأرض والعرض ولكن ينبغى علينا ألا ننسى هؤلاء الأبطال والشهداء, وألا نسمح لذكرى حرب أكتوبر أن تتحول لمجرد يوم فى النتيجة، تعطل فيه المدارس فقط، مثلما حدث مع معركة بورسعيد عام 56!