الأهراممقالات صحفيةموضوعات عامـــة

ومشيت فى الجنازة وحيدا

عندما توليت رئاسة إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية، كنا نحتفل مرتين، سنوياً، بشهداء حرب أكتوبر 73 … وفى أحد الأيام، قدم لى واحد من الأصدقاء، سيدة فاضلة ترغب فى مساعدة أسر الشهداء من الجنود وضباط الصف، ورحبت بطلبها، إذ أنه ليس بغريب، كما أنه متاح لجميع المصريين. وبالفعل اشتركت معنا، هذه السيدة الكريمة، فى أول الاحتفالات، وكانت إفطار العاشر من رمضان.

ثم ألتقيتها، مرة أخري، بعد شهر واحد، من ذلك اليوم، فعلمت بمساعدتها لأكثر من 200 أسرة من أسر الشهداء، سواء فى مساعدة فى الزواج، أو إجراء عمليات جراحية، أو سفر للعمرة … وبالرغم من أن الكثير من المصريين يتقدمون لمعاونة أسر الشهداء، سواء كان معنوياً أو مادياً، إلا أن تلك السيدة، تحديداً، كانت تنفق من مالها الخاص بكرم حاتمي، حتى أننى أطلقت عليها، آنذاك، لقب أم الشهداء، لما رأيته منها من تفان وإخلاص، عجزت شخصياً عن تفسير أسبابه … فقد كانت، على سبيل المثال، تجوب محافظات مصر شمالاً وجنوباً، لدعم أسر الشهداء، غير مكتفية بالدعم المادي، وإنما مصرة على أن يصاحب ذلك دعم معنوي. وبعد أن استمر عطاؤها، بل ازداد أكثر وأكثر، عرضت عليها التكريم من حرم السيد رئيس الجمهورية، فرفضت رفضاً قاطعاً، وكان ردها كده يضيع الثواب!

ومرت السبع سنوات سريعة، وانقطعت الصلة مع هذه السيدة الفاضلة، بعد أن تركت مكانى فى الشئون المعنوية. وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً، تلقيت مكالمة تليفونية من إحدى مديرات دور المسنين، وقالت لى إن هناك من يريد محادثتي، وجاءنى الصوت مألوفاً إلى حد ما، إلا أننى لم أتعرف على صاحبته، فى تلك اللحظة، حتى عرفتنى بنفسها، أنها أم الشهداء، كانت مفاجأة أن أتلقى مكالماتها، وصدمة أن تأتينى من دار للمسنين.

انطلقت على الفور لزيارتها … ويا لهول ما رأيت … لقد تسللت إلى ملامحها بصمات الزمن الغائرة … وأصبحت، بالكاد تقف، ولا تتحرك إلا بمشاية ترتكز عليها! وأخبرتنى مديرة الدار أنها شاهدتنى على إحدى القنوات، وطلبت أن تراني، فظلت تبحث عن رقم هاتفى حتى وجدته. أبلغتنى مديرة الدار أنها نزيلة بالدار منذ خمس سنوات، إذ أن أولادها مقيمون فى الخارج، وابنتها الوحيدة، المقيمة فى مصر، تزورها، بالكاد، كل عدة أشهر.

مازالت أم الشهداء ميسورة الحال، ولا هم لها سوى وحدتها … جلسنا معاً نتذكر الماضى الجميل، والتف حولنا باقى سيدات دار المسنات، يستمعن إلى ما سبق أن قصته عليهن مراراً، ولكن فى وجود شاهد الإثبات الوحيد على عظمة تلك السيدة. ناولتنى عددا من الصور الفوتوغرافية لأولادها وأحفادها، بدا من مظهرها أنها تعود إلى عشر سنوات على الأقل.

أحد أولادها، كما علمت منها، طبيب عالمى يعيش فى الولايات المتحدة الأمريكية، التى لم يعد منها بعدما أكمل دراسته بها، فقد بذلت الأم كل غالٍ ورخيص من أجل تعليم أبنائها أفضل تعليم. وابنها الآخر رجل أعمال مشهور فى دبي، أما الابنة الوحيدة، فتعيش فى القاهرة!

اتصلت بهم جميعاً، لأخبرهم بحال أمهم، التى لم ترهم منذ عشر سنوات، وأحثهم على زيارتها … فقال لى ابنها الطبيب الأكبر، المقيم فى أمريكا، أن لديها من الأموال ما يكفل لها العيش دون مشاكل فى هذه الدار، مع العلم أنه يزور مصر، كل عام! سمعت نفس الكلام من ابنها الثاني، المقيم فى الإمارات. أما الابنة، فتعللت بمسئوليات الحياة التى تلهيها عن زيارة أمها! فطلبت منهم صورا حديثة لعائلاتهم، علّها تجد فيها ما يؤنس وحدتها، ولن أطيل عليكم فى وصف فرحتها العارمة بتلك الصور، وهى تقارنها بما لديها من صور قديمة، ولن أحكى لكم عن مشاعر الفخر التى انتابتها وهى ترى الأحفاد وقد صاروا فتيانا وفتيات!

وهكذا، عشت 3 أشهر فى زيارات أسبوعية لهذا المكان … رأيت، خلالها، مجتمعاً جديداً لم أره من قبل، كانت متعتها الوحيدة خلالها، هى الحديث عن الابناء وعن ذكريات طفولتهم. وفى أحد الأيام، أخبرتنى برغبتها فى السفر، على نفقتها الخاصة، لزيارة أبنائها، وللأسف كان ردهم الأمور هنا صعبة.. وعندما نزور القاهرة سوف نراها.

وفى أحد الأيام، جاءتنى مكالمة فى الصباح من مديرة الدار، تبلغنى بوفاة «أم الشهداء وتخشى دفنها فى مقابر الصدقات. فأسرعت إلى الدار، وبعد اتصالات عديدة، عرفت مكان مقابر الأسرة، فأرسلت من قام بتجهيز المدفن، بينما أقمنا صلاة الجنازة فى الجامع القريب من دار المسنين، وشيعنا جثمانها إلى مثواه الأخير، وأنا معها وحيداً … فقد اعتذر ولداها عن عدم إمكان الحضور، أما ابنتها فكانت مع أولادها بالإسكندرية للمشاركة فى مسابقة رياضية!

وللمرة الثانية فى حياتي، بعد وفاة والدتي، تسيل دموعى بغزارة، على من أفنت حياتها فى تربية أولادها على أعلى مستوي، وخدمت أكثر من 1000 أسرة من أسر شهداء مصر، وكُتب عليها أن يواريها التراب وحيدة… وبعدها بأسبوع اتصلت بى مديرة الدار لتبلغنى بحضور ابنتها لتتسلم شهادة الوفاة، لإقامة دعوى إعلام الوراثة، لتحصل هى وأخواها على التركة الكبيرة التى تركتها لهم الأم … وتسلمت شهادة وفاة الأم، والتى اعتبرتها، فى هذه الحالة، شهادة وفاة القيم والأخلاق فى عصرنا الحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى