يوم مع أكراد تركيا
فور وصولي، إلى تركيا، لتسلم مهام عملي، كملحق عسكري لمصر، بالعاصمة أنقرة، لمدة ثلاث سنوات، تم اختياري عميداً للسلك الدبلوماسي العسكري، في أنقرة، من قِبل مدير المخابرات الحربية التركية، الأدميرال توزمان، حيث أنه طبقاً للقوانين الدولية، فإن الملحقين العسكريين في أي بلد، يكون تنسيق مهامهم مع مدير المخابرات الحربية، بينما السادة السفراء فيكون تنسيق عملهم مع وزارات الخارجية، بالبلد المضيفة.
كانت علاقتي بالأدميرال توزمان طيبة للغاية، وكان التنسيق بيننا على أعلى مستوى، ما مكنني من أداء مهام منصبي، كملحق عسكري، وكعميد للسلك العسكري، بانسيابية، وكفاءة. والحقيقة، أن مجمل العلاقات الثنائية، بين مصر وتركيا، آنذاك، كانت في أزهى عصورها، إبان حكم الرئيس التركي تورجوت أوزال، ثم مالت إلى الفتور، بعد وفاته، وتولي الرئيس ديميريل رئاسة الجمهورية. وكانت تركيا، آنذاك، تتعرض إلى العديد من الهجمات، من العناصر الكردية التركية، التابعة لمنظمة حزب العمل الكردستاني BBK، والذي كانت تركيا تصدر صورته للعالم، بأنه منظمة إرهابية، رابطة بينه وبين التفجيرات، والهجمات الانتحارية، ضد عناصر الجيش التركي، في ذلك الوقت.
وفي أحد الأيام طلبت من الأدميرال توزمان، السماح بتنظيم زيارة للملحقين العسكريين، إلى جنوب تركيا، مقر الأكراد، وبالفعل، قمنا بزيارة المنطقة، وعاصمتها ديار بكر، التي يقطنها ١٥ مليون نسمة، وعدنا منها، في الواقع، بانطباع سلبي، عن الإدارة التركية، رغم كل محاولتها لتحسين صورتها؛ فالحياة هناك متردية للغاية، لانعدام البنية الأساسية؛ المياه، والكهرباء، والصرف الصحي، والرعاية الصحية، أما المدارس، فقد رفض الأكراد الالتحاق بها، لرفض الإدارة التركية تعليم اللغة الكردية، ووفقاً للبيانات الدولية، فالمنطقة تعاني من ارتفاع معدلات الفقر بها.
وبنظرة عامة على موقف الأكراد، فهم أكبر قومية إنسانية، في العالم، لا تمتلك دولة معترف بها دولياً؛ ينحدر الأكراد، في الأصل، من قبائل الميدية، التي أنشأت إمبراطورية كبيرة في القرن السابع قبل الميلاد، قبل أن تقضي عليها الإمبراطورية الفارسية، للأكراد لغتهم الخاصة، المتأثرة باللغة العربية، والتركية، والفارسية، ويعتنق أغلبيتهم المذهب السُني. ساهمت جغرافيا المناطق الجبلية التي يقطنونها، في الحفاظ على لغتهم، وتراثهم، وتقاليدهم الخاصة. يتراوح عدد الأكراد، في العالم، بين ٢٨ إلى ٣٥ مليون نسمة، تتوزع نسبتهم الأكبر في تركيا، بعدد ١8 مليون كردي، يليها العراق بعدد ٧ مليون نسمة، وإيران ٥ مليون، ثم سوريا ٢,٥ مليون كردي، وأعداد متفرقة بين لبنان، وأرمينيا، وأذربيجان.
بسبب تدني ظروف معيشة الأكراد، في تركيا، فقد هاجر، نسبة كبيرة منهم، إلى ألمانيا، وبلجيكا، وهولندا، واستفادوا من السماوات المفتوحة، والتقدم التكنولوجي، في أن أطلقوا أكثر من عشرون محطة فضائية، كردية، من أوروبا، تبث برامجها باللغة الكردية، ومنها من يفتح مدارس لتعليم اللغة الكردية لأطفالهم كل صباح.
الأكراد شعب يحلم بتأسيس دولة كُردستان المستقلة، وسعوا لتحقيق أملهم، أول مرة، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، مستفيدين من نص معاهدة سيڤر عام ١٩٢٠، على حق الأكراد في تقرير مصيرهم، وتشكيل دولة خاصة بهم، إلا أن حلم ذهب أدراج الرياح، بتولي كمال أتاتورك، الرئاسة، وعمله على توحيد الدولة التركية، فتم استبدال معاهدة سيڤر، بمعاهدة لوزان، التي وزعت الأكراد، وفقاً لموقعهم الجغرافي، بين تركيا، والعراق، وإيران، وسوريا، ورغم ذلك لم يتخلوا عن حلمهم. ولقد حصل أكراد العراق على الحكم الذاتي، وانتخبوا برلمانهم الخاص، وأسسوا جيش يسمي “البشمرجة”، واتخذوا من أربيل عاصمة لهم، بعدما حال الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، من حصولهم على مدينة كركوك، الغنية بالثروة البترولية.
وبعد أحداث ما يطلق عليه “ثورات الربيع العربي”، في المنطقة، تمكن أكراد العراق من الاستيلاء على مدينة كركوك، في محاولة لاستكمال مكونات الدولة، إلا أنه، وأمام رفض المجتمع الدولي، لتلك العملية الانفصالية، سرعان ما عاد أكراد العراق إلى بغداد مرة أخرى، وهو ما أظنه قرار مؤقت، لحين تغير الظروف، لذا تعمل تركيا، الآن، بكامل قوتها، لاستمرار الضغط على أكراد الجنوب، لإضعافهم، والحيلولة دون اتحادهم مع أكراد سوريا، وأكراد العراق، خاصةً أن القوى البشرية العظمى للأكراد تأتي من تركيا.
ومن هنا بدأت فكرة تركيا في تكوين المنطقة الآمنة شمال سوريا، بهدف السيطرة على تلك المنطقة، وإعادة توزيع السكان بها، بتوطين ٣ مليون مهاجر سوري، ممن فروا إلى تركيا، للعيش في منطقة شمال سوريا، بهدف إخفاء الهوية الكردية من شمال سوريا، وعلى الصعيد العراقي، فإن تركيا لم تتوقف عن مهاجمة أكراد الشمال، في العراق، من وقت لآخر، منذ عهد صدام حسين، حتى وصل الأمر إلى قيام الجيش التركي، بمهاجمة شمال العراق، وتدمير الكيانات العسكرية الكردية هناك، ورغم ما كان يعلنه صدام حسين من رفضه لهذه العمليات، إلا أنه كان سعيداً بقيام الأتراك بهذا الدور، لإضعاف القدرة العسكرية لأكراد العراق.
تدخل الولايات المتحدة، بتسليح أكراد سوريا، من خلال وحدات حماية الشعب الكردية، وقوامها ٢٥ ألف مقاتل، للقتال ضد تنظيم داعش الإرهابي، فنجحت تلك الوحدات في طرد داعش من شمال سوريا، بما أتاح للولايات المتحدة إعلان قضائها على داعش في المنطقة، إلا أن ذلك قد أثار حفيظة الأتراك، مما دفع قيادتها لمهاجمة شمال سوريا، بزعم تكوين منطقة آمنة، بعمق ٣٥ كم، إلا أن هدفها الحقيقي هو تدمير القوي العسكرية لوحدات حماية الشعب الكردية، لمنعهم من الاتحاد مع حزب العمال الكردستاني BBK في تركيا، وتجديد السعي لإنشاء دولة كردستان.
وبعد التدخل الأمريكي، وتحذير تركيا، لإيقاف عملياتها العسكرية على شمال سوريا، فإن الجميع يترقب رد الفعل التركي، لتحقيق الهدف الواضح، بالاستيلاء على شمال سوريا، لمنع أكراد سوريا من الانضمام، والاتحاد مع أكراد تركيا.