الأهراممقالات صحفيةموضوعات عامـــة

إبرة فى كوم من القش

عندما كنت طالبا فى كلية كمبرلى الملكية، بإنجلترا، كان أعز وأقرب الأصدقاء لي، من الضباط الإنجليز، هو الرائد ريتشارد… فتزاملنا لمدة عام ونصف العام، هى عمر الدراسة فى الكلية الملكية… وتحولت الزمالة إلى صداقة، ترقى لحد الأخوة… لا أنسى شهامته، ومواقفه العديدة معى… لم أنس أنه كان يراجع لى واجباتى فى الكلية، ليجنبنى حرج الوقوع فى الأخطاء الإملائية أو النحوية للغة الإنجليزية … لم أنس تطوعه بكتابة 52 ورقة، على آلته الكاتبة، هى ملخص كتاب هنرى كيسنجر «كيف تدار السياسة الأمريكية» الذى كنت اخترته كبحث أعددته فى نهاية الفصل الدراسى الأول … ولم أنس فرحته وزهوه بي، عندما حصل بحثى على جائزة، كواحد من أفضل خمسة أبحاث قدمت فى ذلك الوقت، بالرغم من عدم حصول بحثه على أي جوائز تقديرية.

لم تكن عائلتى بصحبتى أثناء الدراسة، ولم يكن الرائد ريتشارد متزوجا … إلا أن تلك الظروف لم تكن هى السبب الحقيقى لصداقتنا… فقد كان السبب الحقيقى لدي، هو عشق ريتشارد لتاريخ مصر … يحفظه ويعيه عن ظهر قلب … يشعرك بالخجل عندما يتحدث إليك، بحماس وشغف، عن التاريخ الفرعوني، مثلا، فيسرد الأسر واحدة تلو الأخرى، وفترات حكمها، وأهم الآثار التى خلفتها، بالرغم من أنه لم يزر مصر من قبل، ولم يطلع، بمرأى العين، على أى من آثار عظمتها.

انهيت دراستى فى كلية كمبرلى الملكية، وفور عودتى إلى مصر، تقدمت إلى كلية الآداب بجامعة عين شمس، وانتسبت فيها لدراسة التاريخ … كنت قد عزمت على ذلك القرار منذ أن كنت فى إنجلترا… وتعجب البعض من قرارى ومن اختيارى دراسة التاريخ، وأنا ضابط الجيش، المنتظم فى الخدمة … وكنت أعلم بداخلى أن صديقي، الرائد الإنجليزى ريتشارد، هو السبب الحقيقى وراء هذا الاختيار.

استمرت المراسلات البريدية بينى وبين ريتشارد لأعوام عديدة، وشيئا فشيئا، ومع انشغالات الحياة، تقلصت إلى تبادل كروت المعايدة فى الأعياد والكريسماس … وكان آخر ما وصلنى عنه من أخبار، أنه انتقل إلى الخدمة فى أفغانستان، ضمن صفوف جيش بلاده هناك… كان ذلك قبل أن انتقل من منزلى فى مصر الجديدة، وتنقطع المراسلات بيننا تماما.

وفجأة، خلال الأسبوع الماضى … أثناء انعقاد مؤتمر الشباب بشرم الشيخ … هاتفنى أحد أصدقائى من ضباط الجيش السابقين، قائلا إن هناك من تبحث عنى فى المؤتمر، ومعها صورة لي، تعود إلى أكثر من ثلاثين عاما، مع أحد الضباط الإنجليز، تقول إنه والدها … إنها ابنة ريتشارد … صديقى العزيز!.

والتقطت الهاتف، وهى تهلل من الفرحة «Major Samir» … فقلت لها إننى الآن فى رتبة لواء … عرفت منها أنها من ضمن المشاركين فى المؤتمر … وأنها كانت تبحث عنى طيلة أيامه الخمسة، ودليلها الصورة التى فى يدها… سألت عنى مئات الأشخاص، حتى وجدتني، لتفى بعهدها إلى والدها بأنها ستجدنى فى مصر … قائلة إنها كانت كمن يبحث عن «إبرة فى كومة من القش» وهو مصطلح متعارف عليه فى الإنجليزية كذلك، ولكنها كانت واثقة من نجاحها… وأعربت لى عن تقديرها لي، وكيف أنها تعتبرنى شقيقا لوالدها، من كثرة ما سمعت منه عن صداقتنا فى إنجلترا.

كان ذلك آخر أيام المؤتمر، وإلا لكنت توجهت فورا إلى شرم الشيخ للقائها، وعلمت منها أنها عائدة إلى القاهرة فى صباح اليوم التالي، قبيل عودتها إلى لندن. فانتظرتها فى مطار القاهرة الدولي، لأرحب بها. كان مقرراً لها أن تبقى لمدة ثلاث ساعات قبل موعد رحلتها إلى لندن. ونظراً لضيق الوقت، لم أتمكن من تحقيق حلمها برؤية الأهرامات، ولكننى صممت على أن أمتعها بجولة سريعة فى القاهرة … فانطلقنا إلى المتحف المصري، نجوب طرقاته، وأنا أرى الانبهار يشع من عينيها … تماماً كما كان فى عينى والدها … ثم اصطحبتها للغذاء، سريعا، فى أحد المطاعم على النيل … وتركتها تحكى عن انطباعاتها … ولم أقاطعها لمدة ساعة كاملة …

فبادرتنى بحديثها عن جمال الطبيعة والجو البديع فى مدينة شرم الشيخ، كما لم تره، من قبل، فى أى من بلدان العالم التى زارتها، وهى كثيرة … ثم تحدثت كثيرا عن الشباب المصرى الذين التقتهم هناك، سواء من المشاركين فى المؤتمر، أو من العاملين فى مدينة شرم الشيخ، وكيف أنهم ودودون ومرحبون بجميع الزائرين، لا تخلو وجوههم من ابتسامة، ولا يتهاونون فى مد يد العون للجميع … ولفت انتباهها وعى الشباب المصري، الذى بالرغم من بعض الإحباطات التى تصيبه، إلا أنه قادر على استيعاب المواقف السياسية المحيطة به فى المنطقة، وقادر على التعبير عنها بطلاقة وحرية … مشيدة بما شهدته أروقة المؤتمر من ديمقراطية، قد لا تجدها فى العديد من الدول المتشدقة بها. واسترسلت كثيرا فى حديثها عن تنظيم المؤتمر بدقة، ليخرج بهذه الصورة المشرفة، التى تعكس حضارة مصر. وأشادت بحوار الرئيس السيسى خلال المؤتمر، واللقاءات التى عقدت معه، أو بحضوره، مؤكدة أنها استشعرت فيها حبه لبلاده، ورعايته لمصالح شعبها، واهتمامه بقضايا شبابها.

بعدما عددت كل تلك المزايا، وجدتها تسألني، كيف تكون بلادكم بكل هذا الجمال والروعة والأمان، وتسمحون بأن تكون صورتها فى الخارج مخالفة للواقع؟… للأسف أن الصورة الحالية لمصر، التى يعكسها الإعلام الغربى عنها، متحيزة ضدها، وهو ما نعرفه جيدا، وما أكدته لى ابنة صديقي، كواحدة من العامة، الذين يعتمدون على الإعلام فى تكوين صورهم الذهنية. وأضافت لى أنها ستحكى عن روعة تجربتها فى مصر، لكل المحيطين بها … إلا أن ذلك لا يكفى وحده، ولا يعفينا من تهمة الإهمال والتقصير فى حق بلدنا.

وفى نهاية لقائنا، الذى لم نتمكن من مده لأكثر من ذلك، نظرا لارتباطها فى لندن، تحدثنا مع صديقى ريتشارد، ورأيته عبر الهاتف، بعد كل تلك السنوات من الانقطاع … لتعود الصداقة، ومعها أمل بعودة مصر إلى مكانتها الحقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى