بورسعيد وأغلى الذكريات كل عام
تحتفل بورسعيد، ويحتفل معها الشعب المصري، يوم 23 ديسمبر، من كل عام، بذكرى عيد النصر، واحد من أغلى انتصارات مصر، والأمة العربية، والذي حققته في عام 1956 … وفي مثل تلك الأيام، أجدني أعود إلى ذكريات طفولتي، في مدينتي الحبيبة، بورسعيد، في أعقاب إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، فإذا بإسرائيل، وإنجلترا، وفرنسا يشنون عدوانهم الثلاثي، على مصر، يوم 28 أكتوبر 1956، وأتذكر أن استيقظنا، في صباح ذلك اليوم، على أصوات الطائرات البريطانية، والفرنسية، وقطع الأسطول، تهاجم الدفاعات المصرية في بورسعيد، فجريت إلى شرفة المنزل، ورأيت المظلات تهبط على أرض بورسعيد، في مشهد ذكرني بالأفلام السينمائية، وعلمنا، بعدها، أنها المظلات البريطانية هبطت لاحتلال مطار الجميل.
اندفع والدي نحو الراديو لتوجيهه لإذاعة BBC، البريطانية، فسمعنا تحذيراتها، لأهالي بورسعيد، بالنزول إلى المخابئ، وحددت شوارع معينة لإخلائها، لأنها في مرمى مدفعية الأسطول البريطاني والفرنسي. هرع معظم رجال، وشباب، بورسعيد نحو مطار الجميل، حاملين بنادقهم، التي تسلحوا بها، في الأيام السابقة، ونجحوا في إبادة الفوج الأول، من المظليين، بينما هرولت الأسر إلى البدروم، فتجمعنا مع سكان عمارتنا، وكانوا حوالي 23 أسرة، كلهم من الأجانب، ما بين الإنجليزي، والمالطي، واليوناني، والإيطالي، وغيرهم، إلا أسرتنا كانت الأسرة المصرية الوحيدة، فقد كان حي الأفرنج، في بورسعيد، مقر تجمع الأجانب من قاطني بورسعيد، وكان صاحب المنزل “مسيو فيلاردي” قد توفى، وتم وضع المنزل تحت الحراسة، فحصل والدي على تلك الشقة من قاضي الحراسات.
بقينا، مع باقي أسر عمارتنا، في البدروم طيلة خمسة أيام، نسمع أصوات الطلقات، والمدافع، وهجوم الطائرات، كسر خلالهم أطفال تلك الأسر حواجز الغربة بينهم، حتى تآلفوا، والتففنا جميعاً، حول الراديو، نتابع أخبار ما يدور في شوارع بورسعيد، التي تحولت لساحة معارك بين القوات البريطانية، من ناحية، ورجال الجيش المصري، والمقاومة الشعبية، من ناحية أخرى، بينما تولت القوات الفرنسية الهجوم على بورفؤاد، حتى أعلنت إذاعة BBC، في الثاني من نوفمبر، انتهاء القتال، فصعدنا إلى الشقق، التي كان زجاج نوافذها قد تناثر في كل جوانبها، فتولت والدتي الإشراف على تنظيف البيت، بينما صحبني والدي للاطمئنان على جدتي في شارع الثلاثيني.
مشينا في الطريق، ورائحة البارود لازالت تملأ الشوارع، فوجدنا شهداء المصريين، من الجيش، والمقاومة الشعبية، على كل ناصية كل شارع، دمائهم تنزف، وسلاحهم في أيديهم، فأسرعت إلى المنزل، بناء على تعليمات والدي، لإحضار الملايات لتغطية الشهداء، على طول الطريق. ومررنا في ميدان المحافظة، بالعمارات التي أحرقتها الطائرات البريطانية، بالنابالم، نتيجة قيام أفراد المقاومة الشعبية، بإطلاق النيران منها، وكان الدخان لازال ينبعث منها. فقررت، في ذلك اليوم، أن أكون ضابطاً في الجيش المصري، لكي أحمي تراب هذا الوطن، وفي هذا اليوم، كرهت الإنجليز الذين حرقوا مدينتي، وقتلوا أبناءها، ثم احتلوها حتى تم إجلاؤهم عنها يوم 23 ديسمبر، من نفس العام، بعد استبسال أهلها في الدفاع عنها، مما دفع دول العالم للتحرك ضد الدول المعتدية، ليصبح ذلك اليوم عيد النصر لمصر، والأمة العربية.
نفذت الوعد الذي قطعته على نفسي، وانضممت لصفوف قواتنا المسلحة الباسلة، ودارت الأيام وتم اختياري لأكون أول ضابط مصري يبعث للدراسة بكلية كمبرلي الملكية، بإنجلترا، في عام 1975، بعد 20 عاماً من الانقطاع، منذ العدوان الثلاثي على مصر. ولما لم أكن أملك رفاهية التنزه في جميع عطلات نهاية الأسبوع، حيث كان راتب البعثة، بالكاد، يكفي مصاريف الإقامة، فقد كنت أقضي، معظم، العطلات في مكتبة الكلية، أتنقل بين صفحات الكتب، والصحف البريطانية، فوقعت على كنز الصحافة البريطانية، المزامنة للعدوان الثلاثي، أو “حملة السويس”، كما يطلق عليها الغرب، واطلعت على الوجه الآخر للهجوم على بورسعيد، في عام 56.
قرأت عن الرعب، والهلع، الذي أصاب الإنجليز، بعدما قضى شعب بورسعيد، على الموجة الأولى من المظليين، في مطار الجميل، وقرأت عن غضب الشعب الإنجليزي، ومطالبته بمحاسبة المسؤولين، في الجيش البريطاني، عن هذه المجزرة. وقرأت عن مدى كره البريطانيين، آنذاك، “للكولونيل ناصر”، الذين اعتبروه العدو الأوحد، الذي زلزل عرش الإمبراطورية البريطانية، التي لا تغرب عنها الشمس. واطلعت على الذعر الذي أصاب الإنجليز، لما علموا بأن المقاومة الشعبية، البورسعيدية، اختطفت الضابط البريطاني “مورهاوس”، ابن عم ملكة إنجلترا، وكيف اتهموا قواتهم البريطانية بالتقصير، لفشلها في العثور عليه، حتى وفاته. فعدت بذاكرتي إلى ذلك اليوم الذي اقتحم، فيه، الجنود الإنجليز، منزلنا لتفتيشه، بحثاً عن مورهاوس، وتذكرت كيف التف جميع أفراد العائلات الموجودة بعمارتنا، حول والدتي، حتى منعوا الجنود الإنجليز، من تقطيع المراتب، وتكسير الزجاج، وتخريب المنزل، مثلما فعلوا في باقي منازل بورسعيد.
وقرأت كيف كيلوا الاتهامات للساسة البريطانيين، بعد نجاح المقاومة الشعبية، في سطر بطولة جديدة، بالقضاء على ضابط المخابرات الإنجليزي، “جون وليامز”، الذي خدم في منطقة القناة، وبورسعيد، طيلة عشرون عام، وكان يتحدث العربية بطلاقة، وهو الضابط الذي تقدم نحوه أحد الفدائيين من أهالي بورسعيد، ممسكاً بساندويتش، ولما اقترب من هدفه، قضم الساندويتش، والذي كان يخفي فيه قنبلة يدوية، نزع فتيل أمانها، ورماها الضابط الإنجليزي، لتقتله على الفور … اكتشفت حينها أن كل أعمدة الصحف البريطانية، في ذلك الوقت، كانت تدور حول نقد ساسة وحكام بلادهم، “الذين ظنوا أنهم في نزهة إلى بورسعيد … ولم يحسبوا حساب الخصم، ويقدروه حق تقديره”.
تذكرت كل ذلك، وأن استقبل عيد النصر، ولكنني أقر، أنه خلال دراستي في إنجلترا، ومعايشتي للشعب الإنجليزي، صاحب التقاليد العريقة، تعلمت أن أتخلص من كرهي للإنجليز، وأن أفرق بين الشعب والحكام … فمن هاجم بلدي مصر، ومدينتي بورسعيد، هم أنطوني إيدن، رئيس الوزراء البريطاني، حينئذ، وحكومته، الذين صعب عليهم أن تستقل مصر، وتؤمم قناة السويس، أما الشعب البريطاني فهو شعب كريم يحب مصر وشعبها مصر … كل هذه الأحداث، والذكريات، أستعيدها، كل عام، وأنا فخور بمصريتي، وبانتمائي إلى مدينتي الحبيبة بورسعيد.