٢١ اكتوبر ٢٠٢٣
لواء دكتور/ سمير فرج
ومازال إغراق المدمرة ايلات أمام سواحل بورسعيد، حدثا رئيسيا ومؤثرا رغم مرور كل هذه السنوات ونحن نحتفل هذه الأيام بمرور 50 عاما على حرب أكتوبر المجيدة، هذا الانتصار الذي حقق لمصر وشعبها وجيشها أعظم نصر في العصر الحديث، إلا أن عملية إغراق المدمرة ايلات أمام سواحل بورسعيد يوم 21 أكتوبر عام 1967،حيث تقبع الآن، في المياه الإقليمية لشواطئ بورسعيد. في قاع البحر المتوسط، ليشهد عظمة رجال البحرية المصرية، خاصة أنه بعد أشهر قليلة من هزيمة 67 هذه العملية العسكرية. غيرت مفاهيم التسليح وأساليب القتال البحري. في العالم كله.
وابدا القصة من النهاية، حين كنت في زيارة إلى تايوان، منذ عامين تقريباً، للمشاركة في مؤتمر دولي عن مكافحة الإرهاب في منطقة جنوب شرق آسيا، عدد من القادة العسكريين والخبراء، في مجالات مكافحة الإرهاب، من 35 دولة، معظمهم من دول الناتو.
تضمن برنامج المؤتمر، في يومه الثاني، زيارة لأحد المصانع الحربية في تايوان، المتخصصة في صناعة الزوارق البحرية؛ بدأت تلك الزيارة في قاعة للمحاضرات، استمعنا خلالها إلى تقديم مدير المصنع، لنفسه، ولنشاط مصنعه، قبل زيارة خطوط الإنتاج والتشغيل. عندما وصلنا إلى المصنع رأيت مبان ضخمة، كبيرة، على أعلى مستوى من التكنولوجيا، حتى في طريقة تشغيل البوابات، والأمن، وقاعة المحاضرات، وحتى تقديم المطبوعات الخاصة بالمصنع، ومعها لوح إلكتروني، أو “Tablet”، هدية، عليه كل المعلومات الفنية، والإدارية، والتنظيمية، عن المصنع.
ولأنني من المؤمنين بالمبدأ الإنجليزي، القائل بأن الانطباع الأول، يظل هو الانطباع الأخير، أو “The first impression is the last impression”، فالحقيقة أن انطباعي عن المصنع لم يتغير، بعدما بدأ حديث مديره، بأنه تم إنشاؤه عام 1960، كمشروع أمريكي-تايواني، مشترك، ينقسم هيكل ملكيته إل نسبة 70% للأمريكان، و30% لتايوان، ويعتبر، الآن، هو المصنع الذي ينتج جميع الزوارق البحرية للجيش الأمريكي، ابتداءً من زوارق الطوربيد، وزوارق الصواريخ، وزوارق حرس السواحل، وزوارق مراقبة السواحل والإنقاذ، وغيرهم من نحو عشرة أنواع مختلفة من الزوارق، التي تفي باحتياجات القوات البحرية الأمريكية، وحرس السواحل.
أضاف مدير مجمع المصانع، أن الإنتاج بدأ عام 1960، ولكنه توقف، فجأة، في نهاية عام 67، بعدما مُني الفكر العسكري القتالي البحري، بصدمة كبيرة، أخلت بجميع موازينه، عندما نجح المصريون في إغراق أكبر قطعة بحرية في الأسطول الإسرائيلي، وهي المدمرة إيلات، باستخدام 4 لانش صواريخ، على ساحل البحر المتوسط … هذه الصدمة، التي أجبرت الترسانات البحرية، حول العالم، على التوقف عن الإنتاج، لدراسة نجاح المصريون … والبحث في أسباب فشل البحرية الإسرائيلية لتطوير الأسلحة البحرية
استطرد السيد المدير قائلاً، أن الإنتاج توقف، تماماً، لمدة عام، تقريباً، لاستخلاص الدروس المستفادة من هذه المعركة، والتي انتهت إلى إعادة تصميم الزوارق الحربية، لتكون أقل حجماً، وأكثر سرعة، مع زيادة حجم التسليح، وزيادة مدى وإمكانيات الرادارات البحرية لهذه الزوارق. وكان إضافة كل عامل، مما سبق، يتطلب إعادة تصميم الزورق من جديد، حتى ظهر، بعدها بعام، أشكال جديدة من الزوارق الحربية، هي التي نراها اليوم وتبدا القصة يوم 21 اكتوبر 1967
اي بعد 4 شهور من هزيمة يونيو، التي نالت من القوات المسلحة المصرية، مادياً، ومعنوياً، وسرت بعدها أسطورة الجيش الإسرائيلي، الذي لا يقهر … واليوم لن أسطر تلك البطولة على لسان أبطالها من البحرية المصرية، وإنما على لسان قائد المدمرة الإسرائيلية إيلات، المقدم بحري، إسحاق شوشان، التي سطرها في كتابه بعنوان “الرحلة الأخيرة للمدمرة إيلات”، محاولاً، فيه، أن ينفي عن نفسه أية مسؤولية، في إغراق درة الأسطول البحري الإسرائيلي، أمام سواحل بورسعيد … فقد كتب، “صعدت فوق سطح المدمرة وقت الغروب، ونحن نقترب من بورسعيد، وكانت الرؤية لازالت واضحة، وبدأت بيوت مدينة بورسعيد تضاء، ووقفت أحدق في البحر، غير مصدق أننا داخل المياه الإقليمية المصرية، بعد انتصارنا الذي أردى المصريين جثة هامدة، وإذا بعامل الرادار يصرخ، فجأة، بأن هناك صاروخاً قادماً من اتجاه بورسعيد … والحقيقة أنهم كانوا أربعة صواريخ، من طراز ستيكس الروسية، التي كانت محمولة على لانشات صاروخية بحرية، من طراز كومار، استهدفت الصواريخ جانب المدمرة لتميل أولاً. ويضيف إسحاق شوشان، أن المدمرة غرقت، تماماً، بعد ساعتين، بعدما أطلقت عليها الصواريخ الأربعة، بفارق ساعة بين كل صاروخين”.
أما تقارير البحرية المصرية، فقد ذكرت أنه في غروب يوم 21 أكتوبر 67، ظهر على شاشة الرادار، في قيادة القاعدة البحرية، ببورسعيد، هدف بحري، يقترب من بورسعيد، ليدخل المياه الإقليمية للبلاد، ورغم الظروف التي كانت تمر بها البلاد، بعد هزيمة 67، إلا أن قائد القاعدة البحرية، ببورسعيد، أصدر أوامره، بالتعامل، فوراً، مع الهدف. فانطلق اللانش الصاروخي رقم 504، بقيادة النقيب أحمد شاكر، ومساعده الملازم أول حسن حسني، حاملاً الصاروخين الأولين، وبعد إطلاقهما بساعة، أفادت القيادة البحرية، في بورسعيد، أن الهدف لازال ظاهراً على شاشة الرادار، فأطلقت اللانش الصاروخي رقم 501، حاملاً الصاروخين الثالث والرابع، بقيادة النقيب لطفي جاد الله، ومساعده الملازم أول ممدوح نعيم، لتهوى، بعدها، المدمرة إيلات في قاع البحر المتوسط، أمام ساحل بورسعيد.
قتل في هذه العملية البطولية، 47 جندياً إسرائيلياً، طبقاً لسجلات البحرية الإسرائيلية، وألقى المقدم بحري إسحاق شوشان، باللوم على الاستخبارات الإسرائيلية، التي لم يكن لديها علم بنية، ولا بقدرات، البحرية المصرية على إطلاق صواريخها تجاه المدمرة إيلات. وبعدها طلبت إسرائيل، من الصليب الأحمر، السماح لها بانتشال العالقين، والغارقين، داخل المياه الإقليمية المصرية، وهو ما سمحت لهم به القيادة المصرية، التي لا تتخلى عن شيمها الإنسانية، أمام انتصاراتها، لكن ظل حطام المدمرة الإسرائيلية إيلات، حتى الآن، راقداً، في أعماق المياه، أمام شواطئ بورسعيد، لتشهد على عظمة المقاتل المصري، في هذه المعركة، التي كانت سبباً في تغيير الكثير من مفاهيم القتال البحري في العصر الحديث.
سأظل، كل عام، أتذكر هذا اليوم، في تاريخ مصر، 21 أكتوبر 1967، تاريخ فخر وعزة القوات البحرية المصرية، التي تقدم مركزها، في يومنا هذا، لتصبح القوة البحرية السادسة، بين القوى البحرية، في العالم، طبقاً لتقييم مؤسسة “جلوبال فاير باور”، “Global Fire Power”، الصادر في فبراير من العام الجاري.