أيـام فى بلاد الغربة
كافأتنى القوات المسلحة المصرية، بإرسالى مبعوثاً لكلية كمبرلى الملكية بإنجلترا، وهو ما سبق أن كتبت عنه فى مقالات سابقة، فكنت أول ضابط يحضر هذه الدورة العسكرية، بعد عشرون عاماً من القطيعة بين مصر وإنجلترا، عقب حرب السويس والعدوان الثلاثى على مصر عام 56. وسافرت إلى إنجلترا وأنا فى العشرينيات من عمري، ضابطاً صغيراً من أبناء مدينة بورسعيد، ممن عاصروا العدوان الثلاثى عليها فى طفولتي، فترسب بداخلى كره للإنجليز، لما خلفوه من دمار فى بلدتى الصغيرة … بورسعيد.
سافرت إلى إنجلترا، لا أعلم شيئاً عن هذا المجهول … واليوم، عندما أقارن تجربتى فى السفر مع تجربة سفر حفيدتى إلى ألمانيا للالتحاق بالجامعة، يذهلنى التطور التكنولوجى … فلقد شاهدت تفاصيل حياتها هناك قبل أن تتحرك من القاهرة؛ الغرفة التى ستسكن فيها، الجامعة التى ستدرس بها، مبنى الكلية نفسه، المدرجات، المعامل، المنهج الذى ستدرسه بالكامل، والاختبارات المتاحة … تعرفت على أقرب بنك إلى سكنها، المطاعم المجاورة، أماكن التسوق … تعرفت على كل ذلك دون إعاقة، خاصة فى ظل إجادتها التامة اللغة الألمانية … فى حين سافرت أنا إلى إنجلترا ولغتى الإنجليزية هى حصيلة الثانوية العامة المصرية … I have two eyes and I can see.
ذهبت وأنا أعلم أننى سأدرس منهجاً مختلفاً تماماً، عن سابق دراساتى العسكرية … فهذا فكر غربي، يختلف تماماً عن العقيدة القتالية المصرية، التى تنتمى إلى الفكر الشرقي، اعتماداً على فكر الاتحاد السوفيتى … حتى المصطلحات العسكرية مختلفة تماماً، وهو ما فرض علينا البدء بدراسة مصطلحات اللغة العسكرية فى مدرسة اللغات البريطانية، والتركيز عليها، قبل التعمق فى باقى العلوم العسكرية.
وصلت إلى بلاد الفرنجة، كما كنا نطلق عليها آنذاك، ومكثت بها سنتين، تعلمت خلالهما الكثير، ليس فقط فى العلوم العسكرية، وإنما فى العلوم الإنسانية، فكان أول درس أعيه هو الفرق بين الدول والشعوب … فقد يحق لك أن تكره دولة ما، بسبب سياستها، ولكن لا تكره شعبها، على الأقل ليس قبل التعرف عليه. والحقيقة أننى تعرفت على ثقافة وأخلاق والتزام الإنجليز، فاحترمتهم. تعرفت على عاداتهم من خلال التعامل المباشر، خاصة عندما كنت أخرج من الكلية، فى عطلة نهاية الأسبوع، لأذهب إلى لندن العاصمة، التى تفتح متاحفها كل يوم أحد مجاناً للجماهير، فكنت أستغل هذه الفرصة أحياناً، كى لا أُحّمل على مصروفى القليل، فلن أدفع سوى تذكرة القطار ذهاباً وإياباً، وسوف أتناول قطعتين من الشوكولاتة فى وقت الغذاء، حتى عودتى إلى الكلية فى المساء، لتناول عشائى بها … فمصروفى لا يحتمل ثمن وجبة فى لندن، حتى وإن كانت بسيطة.
وفى وقت الظهيرة توجهت لشراء قطعتى الشوكولاتة، فأعطانى البائع اثنتين، قائلاً إن الأولى ثمنها 4 بنسات، والثانية ثمنها 6 بنسات، فتعجبت قليلاً خاصة أنهما من نفس النوع، ففسر البائع ذلك بارتفاع الأسعار، وحيث إن القطعة الأولى كانت من علبة قديمة لم تسر عليها الزيادة، فقد باعها لى بالسعر القديم، بينما القطعة الثانية كانت من البضاعة الجديدة! وهنا بدأ حبى واحترامى لهذا الشعب.
وجاءت نهاية الفصل الدراسى الأول، والتقيت رئيس القسم لأستمع إلى التقييم العام عن هذه الفترة، قبل الانتظام فى الفصل الدراسى الجديد. وبدأ يقرأ التقديرات، وهو سعيد بالتقدم الكبير فى اللغة، وسعيد بالأفكار والمفاهيم التى أقدمها فى المشروعات التدريبية، وقال لقد حصلت على تقدير امتياز فى العلوم وهذا شيء عظيم، ثم أطال النظر إلى تقريري، وبدا على وجهه علامات الاستغراب، قبل أن يقول «يبدو أن هناك خطاً مطبعياً سأحتاج إلى مراجعته مع الزملاء من القسم، فقد حصلت على صفر فى العلوم الاجتماعية، وهو ما يعنى عدم مشاركتك فى الأنشطة الثقافية والاجتماعية التى كانت تنظمها الكلية فى عطلات نهاية الأسبوع!».
والحقيقة أننى لم أشارك فى تلك الأنشطة، وهو ما فسرت أسبابه لرئيس القسم، بأننى استغل عطلة نهاية الأسبوع لمراجعة دروس الأسبوع السابق، والتحضير لدروس الأسبوع المقبل، لتخطى عقبة اللغة. فثار معلمى ثورة كبيرة، وقال «أنت لست هنا لدراسة ما هو موجود فى الكتب والمراجع فحسب، وإنما لتتخرج قائداً مثقفاً، ملماً بعلوم الإدارة والثقافة والفن» … وأغلق الملف وكتب عليه «يؤجل التقييم إلى الفصل الدراسى الثاني».
وبدأ الفصل الدراسى الثاني، وقررت أن ألحق كل ما فاتنى من أنشطة، فحضرت جلسات البرلمان الإنجليزي، وزرت مقر جريدة التايمز، وزرت الأوبرا، والمجالس المحلية، وتعلمت الكثير والكثير من هذه الزيارات، وعرفت قيمتها وأهميتها فيما تضيفه من خبرات إلى حياة الفرد. وتكرر موعد التقييم فى نهاية هذا الفصل، وحصلت على تقدير امتياز فى العلوم العسكرية، والاجتماعية … بل وتخرجت الأول على دفعتي، وعُينت مدرساً بالكلية كأول ضابط من خارج دول الكومنولث البريطاني.
وعندما عملت بعد ذلك فى مختلف المواقع التى شغلتها أيقنت قيمة ما قاله لى مدرسى فى إنجلترا، من أن العلم المنهجى لا تكتمل قيمته إلا إذا امتزج بالثقافة العامة، والفنون، وعلوم الإدارة، ليكتمل بناء الشخصية القيادية وهذا هو المفهوم فى بناء قادة المستقبل فى الفكر البريطانى .. وأعتقد أنه كان له فضل كبير فى بناء شخصيتي، بعد ذلك، عندما عدت إلى بلدنا الحبيب.