ليلة القضاء على البغدادي
في أمسية جميلة من ليالي القاهرة، وفي واحد من أرقى مطاعم حي مصر الجديدة، دعوت السيد ليون بانيتا، Leon Panetta، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق (CIA)، في عهد الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، ورئيس هيئة البيت الأبيض الأسبق، في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون.
وفي تلك الليلة، قص علي السيد بانيتا، قصة القضاء على بن لادن، التي تمت فور توليه رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية، إذ استدعاه الرئيس أوباما، الذي كان قد بدء لتوه فترة ولايته الثانية، في 2008، ليبلغه بحصوله على موافقة الكونجرس الأمريكي، بتخصيص موازنة إضافية لوكالة الاستخبارات المركزية، لتكريس كافة جهودها، ومواردها، في العثور على أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، حينها، حياً أو ميتاً.
يحكي الوزير الأمريكي بانيتا، أنه بدأ في تنفيذ تلك المهمة، بنقل عدد من القوات الأمريكية من العراق، إلى أفغانستان، لمتابعة بن لادن، كما ركز جهوده، منذ اليوم الأول، في جمع أكبر عدد من أطراف الخيوط، التي تعينه في إلقاء القبض عليه، فاتجهت الآراء، إلى ضرورة العثور، أولاً، على “الرسل” المكلفين بنقل المعلومات، والأوامر، والخطط الإرهابية، من أسامة بن لادن، إلى أعضاء تنظيم القاعدة، في مختلف أنحاء تمركزهم، وبالفعل، توصل فريق العمل، بوكالة الاستخبارات الأمريكية، إلى سجين، سابق، بمعتقل جوانتانامو، يقال له “الكويتي”، وأكد ما جمعوه من معلومات، وأبحاث، إلى أنه أحد المراسلين، الهامين.
تواترت المعلومات، والبيانات، بعدها، مؤكدة وجود بن لادن في منزل منعزل، ويروي بانيتا أن القوات المنوط بها تنفيذ العملية، كانت قد كثفت تدريباتها، وواصلتها لفترات طويلة، دون معرفة طبيعة المهمة، وهدفها بإلقاء القبض على “جيرونيمو”، أو أسامة بن لادن … وهو الاسم الكودي الذي أطلق عليه في هذه العملية.
تم تنفيذ العملية باستخدام 2 طائرة شينوك، على متنها 56 جندي أمريكي، بالإضافة إلى طائرتي بلاك هوك، تحملان 24 فرداً، هم قوات الاقتحام … استغرقت الرحلة 90 دقيقة، من أحد القواعد العسكرية الأمريكية في أفغانستان، حلقت على ارتفاع منخفض للغاية، كان الطيارون قد تدربوا عليه لفترات طويلة، لتفادي التقاط إشاراتهم بالموجات الرادارية، التي نسجها تنظيم القاعدة، الإرهابي، حول زعيمهم، لحمايته.
وباستخدام كل القوات، بدأ اقتحام المبنى، وفقاً للتدريبات السابقة، بعدما أكدوا للقيادة المركزية بأن “جيرونيمو موجود”، وأردوه قتيلاً، برصاصة في الرأس، في مايو من عام 2011، وتم التأكد من شخصيته، بعد تحليل الحامض النووي، قبل إلقاء جثته في البحر، كي لا تصبح مزاراً لأعضاء الحركات المتطرفة، مستقبلاً.
وتشاء الأقدار أنه بعد عدة سنوات، تتكرر نفس القصة في الولايات المتحدة، بعدما قرر الرئيس دونالد ترامب، القضاء على زعيم تنظيم داعش الإرهابي، أبو بكر البغدادي، حيث قامت وكالة الاستخبارات المركزية، (CIA)، بالتعاون مع الاستخبارات العراقية، وقوات سوريا الديمقراطية، الأكراد، بتحديد مقر البغدادي، في قرية باريشا، في إدلب، شمال غرب سوريا.
ففي يوم السبت الماضي، الموافق 26 أكتوبر 2019، انطلقت ثمان مروحيات أمريكية، على متنها نحو سبعين فرد، من عناصر القوات الخاصة الأمريكية، المعروفة باسم “دلتا”، قاموا باستهداف أبو بكر البغدادي، وأولاده الأثنان، و8 أشخاص آخرين من معاونيه، في عملية استغرقت ساعة و30 دقيقة، حاولت خلالها القوات الأمريكية اعتقاله، إلا أن البغدادي فجر نفسه بحزام ناسف، بعد فشله في الهرب، من خلال نفق مغلق. وللتأكد من شخصيته، فقد تم، مرة أخرى، تحليل الحمض النووي، الذي أكد أنه أبو بكر البغدادي، وفي تكرار لأحداث الماضي القريب، فقد قامت القوات الأمريكية بإلقاء جثمانه في البحر، كي لا يتحول قبره إلى مزار لأتباعه من المتطرفين.
يرى عدد من المحللين الاستراتيجيين، أن القرار الذي اتخذه الرئيس ترامب، في الأسبوع الماضي، بسحب القوات الأمريكية، من شمال سوريا، وفر الغطاء اللازم للتشويش على خطة القضاء على زعيم تنظيم داعش، والتي كانت تتم بدقة، فسارع البنتاجون بتنفيذ العملية، قبل تحرك الهدف، حيث كان انسحاب القوات الأمريكية، قبل التنفيذ، يعني صعوبة تسيير طائرات الاستطلاع، وفقد القدرة على التواصل مع المخبرين في الميدان. وكان التخطيط لهذه العملية قد بدأ منذ الصيف الماضي، عندما تلقت وكالة الاستخبارات المركزية معلومات عن وجود البغدادي، في منطقة نائية، بشمال غرب سوريا، بعد القاء القبض على عراقي وزوجته، تأكد صلتهم بالبغدادي، إضافة إلى صهره محمد علي ساجت، الذي ساهم في توفير الكثير من هذه المعلومات.
لا شك أن ترامب قد حقق نصراً كبيراً، بالقضاء على البغدادي، خاصة بعد تعرضه لانتقادات عنيفة، داخلياً، وخارجياً، على أثر إعلان سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وهو ما بدا وكأنه تخلي الولايات المتحدة عن أكراد سوريا، الذين ساندوها في القضاء على داعش. بعد نجاح هذه العملية، ظهر الرئيس ترامب، بنفسه، ليعلن للعالم القضاء على أخطر شخصية إرهابية، في العصر الحديث، كما أن نجاح هذه العملية يمكن ترامب من المضي قُدماً في سحب القوات الأمريكية من المنطقة، وهو الوعد الذي قطعه على نفسه للناخب الأمريكي، بعودة كل أبناء أمريكا إلى الوطن الأم، وهو ما يعني استمرار شعبيته، رغم محاولات الديمقراطيين للنيل منها.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل نجاح هذه العملية يعني نهاية تنظيم داعش؟ يرى عدد من الخبراء، أن تنظيم داعش، هو نظام عنكبوتي، متشعب داخل مناطق عديدة، في العالم العربي، والشرق الأوسط، وربما يكون قد فقد الرأس المدبر، حالياً، إلا أن عناصره وقياداته، لازالت موجودة، ومن المتوقع أن يتم تسمية خليفة البغدادي، لقيادة هذا التنظيم، في القريب العاجل. ويرى البعض الآخر، أنه وإن تم اختيار خليفة له، فلن يكون له نفس القوة الفاعلة، وأن هذه العملية تمثل نهاية تنظيم داعش، مثلما حدث مع تنظيم القاعدة بعد مقتل زعيمها أسامة بن لادن.
وحتى الوصول إلى الإجابة الفعلية لذلك السؤال، سيسود الموقف حالة من الترقب، في مختلف دول العالم، خشية قيام الضباع المنفردة من داعش، بالانتقام لمقتل زعيمهم، بتوجيه ضربات إرهابية لدول أوروبا، أو باستهداف التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط، وهو ما ستكشفه الأيام القادمة.