الطيور المهاجرة
يهل علينا كل عام، شهري سبتمبر وأكتوبر، ولكلاهما مذاقه الخاص، منذ كنت طفلاً صغيراً، في بلدتي الجميلة … بورسعيد … بعدما يغادرها ضيوف الصيف، وتخلو لنا، نحن أهل المدينة، فنتمتع بما تبقى من فصل الصيف، بعد أن خف الازدحام على الشواطئ، وانتهى زحام الطرق، وتداعبك نسمات الخريف بلطف، وتنخفض درجات الحرارة، وتقل نسبة الرطوبة، وتهب الرياح على بورسعيد، حاملة معها الطيور المهاجرة، من أوروبا، مثل السمان، والطير الغر، والشرشير، الهارب من ثلوج الشتاء والصقيع هناك، إلى دفء الشتاء في بلادنا. وتعيش بورسعيد، خلال شهري سبتمبر وأكتوبر، تتغذى على وجبات من هذه الطيور المهاجرة، التي اشتهرت بها مدينتي، عن باقي دول مصرنا الغالية، بمذاق خاص، لن تجده في أي مكان.
فكنا، نحن الأطفال، حينها، نجتمع، مع شروق شمس كل صباح، لنندفع إلى شاطئ البحر، لاستقبال أفواج تلك الطيور المهاجرة، التي أنهكها الطيران في رحلتها الطويلة من أوروبا، فيكون أول من يستقبلها، هو شاطئ بورسعيد، فتهبط عليه، من التعب، والإرهاق، فتلتقطها شباك الصيادين، على طول الشاطئ، من بورسعيد حتى دمياط … فيعلو تهليلنا فرحاً بنجاح الصيادين، وترقبنا لوجبة شهية من السمان.
وفي هذا التوقيت من العام، كانت أسراب السردين تندفع إلى شواطئ الدلتا المصرية، لتتغذي على طمي النيل، وقت الفيضان، فكانت تلك وجبة، أخرى، اشتهرت بها مدينتي الحبيبة، فتفوح رائحة شواءه، من كل أركان المدينة، المليئة بأفران شواء الأسماك، والتي كانت تتفرغ في ذلك الموسم، لشواء السردين، الغني في مذاقه، والذي لا تجد مثيله اليوم. كما كانت الأسر حريصة على تمليحه، وحفظه، وإهداءه للأصدقاء، والأحباء.
أما الآن، وبعد مرور عشرات السنين، فقد تغير الحال؛ لقد انخفضت أعداد أسراب الطيور المهاجرة القادمة من أوروبا، فارتفعت، بالتالي، أسعارها، بشدة، في بورسعيد. أما السردين فقد هرب، من أمام شواطئ بورسعيد، والدلتا، بعدما انعدم وصول طمي النيل، منذ بناء السد العالي، وحتى إن وجد الصيادين في شباكهم بعض من أنواع السردين، فستجدها هزيلة، وضعيفة، ولن تشبعك بمذاقها الرائع الذي تعودنا عليه من قبل. إنني في حيرة من أمري، فهل منعت أوروبا هجرة تلك الطيور، مثلاً، لكيلا تصل إلى مصر؟ وهل قل الخير الذي يصل إلى مصر؟
وعندما كنت أزور بورسعيد، في الأسبوع الماضي، وجدت أن هذا العطاء الذي كان يصلنا من السماء، ومن البحر، قد جفت منابعه ولم تعد مدينتي الجميلة تستمتع به، كما اعتادت، طوال فصل الخريف … فسألت عن كيفية استمتاع الأطفال بأوقاتهم، بعدما كنا نقضي أسعد أيام حياتنا في صيد هذه الطيور، والأسماك، فرد علي أحد أصدقائي، بأن الزمن تغير، ولم يعد أطفال المدينة يهتمون بتلك الأنشطة، التي طالما أسعدتنا، ولم يجربوها أصلاً، بعدما شغلتهم الألعاب الإلكترونية الحديثة عن كل ملذات الطفولة، وحرمتهم منها.
لقد حلت التطبيقات الإلكترونية، مثل فيس بوك، ويوتيوب، وتويتر، وغيرهم، محل الطيور المهاجرة إلى بورسعيد، لتقضي على براءة الطفولة التي عشناها في أيام الزمن الجميل. وأضاف صديقي أن الأطفال، والشباب، لم يستفيدوا من مزايا التطور التكنولوجي اللامحدود، والذي يتزايد كل يوم، بأنماط جديدة، واكتفوا منه بالألعاب الإلكترونية، ينعزلون بها عن العالم الواقعي، ويمارسونها على الهواتف المحمولة، أو التابلت، مثل تلك اللعبة، الدموية، اللعينة، (Pubg)، والتي أصنفها، عن نفسي، على أنها لعبة محفزة على الإرهاب. وفي المقابل، قلت مدة أوقات اللعب الجماعي على الشاطئ، وأوشكت السهرات، والتجمعات، العائلية أن تتلاشى، للهث الجميع وراء هذه الألعاب.
ويبقي السؤال، هل أضافت هذه التكنولوجيا الحديثة شيئاً جديداً لعقول هؤلاء الأطفال، وفكرهم، بحيث نستطيع الزعم بأنها وضعتهم على أول طريق النجاح والنبوغ؟ فرغم أننا من ذلك الجيل الذي كان يستيقظ مع ضوء الفجر، لصيد الطيور المهاجرة، والأسماك، إلا أنه ظهر من بيننا الكثيرين من أعلام مصر، في كل المجالات، سواء العلوم، أو الآداب، أو الفنون. فهل سيكون من حظ هذا الجيل الجديد، الذي عاش عصر التكنولوجيا، والكمبيوتر، واللاب توب، والتطبيقات، أن يظهر منه علماء عظماء في أي المجالات؟ لقد تقلصت العلاقات الأسرية داخل البيت المصري، وأصبحت الأسرة المصرية، بل والعربية، تعيش في صمت، لا يجمعهم اهتمامات مشتركة، وبدأ استغلال هذه التكنولوجيا في موضوعات غير أخلاقية، وأصبح تبادل الأخبار الغير صحيحة، والغير دقيقة، والعارية من الصحة، هي السمة الأوضح في المجتمعات. وضاع الانتماء العائلي، واندثرت معه المبادئ والقيم التي نشأنا عليها، وحتى الأغاني التراثية، وقصص الطفولة، التي كانت الجدة تقصها على أحفادها، لم تعد تشغل بال أحد، كل ما يهمهم هي تلك الآلة اللعينة، التي توفر لهم الألعاب الإلكترونية!
وتعجبت … هل قل وصول الطيور المهاجرة من الغرب، وابتلينا منهم بتلك البدع التي غيرت شكل ونمط الحياة المصرية؟ فدعوت من كل قلبي، وأنا أغادر بورسعيد عائداً إلى القاهرة، دعوت أن يا رب العباد رجاء أن تعيد لبورسعيد بهجتها، وتعيد إليها أسراب الطيور المهاجرة … فقد كانت نعيماً على الحياة المصرية.