عندما تنتهك أمريكا الحريات … ثم تعاتب مصر!
زرت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً … وأمضيت يومين كاملين داخل أروقة الكونجرس الأمريكي … ألتقيت خلالهما بعدد كبير من أعضاءه، سواء ممثلي الحزب الديمقراطي أو الجمهوري. وقد لمست، خلال تلك اللقاءات، تغيراً في انطباعاتهم عن مصر، وعن رئيس مصر، مقارنة بلقاءاتي معهم في العام السابق. مجمل القول أن التغيير أصبح إيجابياً لصالح مصر؛ فقد أكد الجميع على أن مصر حجر زاوية الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو ما دفع غالبية أعضاء الكونجرس إلى التصويت لصالح دعم مصر، عسكرياً واقتصادياً.
إلا أن هذا اليقين، بأهمية دور مصر المحوري، لم يمنعهم من توجيه النقد لمصر، فارتكز نقدهم على قضايا حقوق الإنسان، وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي، وأحوال السجون المصرية، وأخيراً حبس الصحفيين الأجانب. وليسمح لي القارئ العزيز، بتفنيد تلك الانتقادات، ليس نفياً أو إيجاباً، وإنما سأتناولها من زاوية مختلفة … هل أمريكا، حقاً، أم الحريات في العالم Mother of Freedom in the World?، كما تدعي دائماً، وأن تمثال الحرية القابع في مدخل مدينة نيويورك، خير شاهد على ذلك؟
لقد رأيت التركيز على تلك المقولة، وقياس مدى صحتها، عن طريق ما نشرته صحيفة “الواشنطن بوست”، أكبر الصحف الأمريكية شعبية وأكثرها انتشاراً، عندما قالت أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست دولة حريات، وأن انتهاكاتها للحريات، لا تختلف عن ممارسات العالم الثالث.واستطردت الصحيفة قائلة، أنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تغيرت ملامح إدارة الدولة،داخلياً وخارجياً، وأصبحت أمريكا دولة لا تحترم حقوق الإنسان، ولا تتمتع بالحرية، كما يتوهم الأمريكيون، أو كما تحاول أن توهم به الآخرون. واستشهدت الصحيفة على ذلك، بعدد من القوانين التي أصدرتها الولايات المتحدة، ويعد تنفيذها تقييداً، وخرقاً للحريات المزعومة:
أولها: قانون السماح بقتل أي مواطن أمريكي إرهابي، أو يشتبه في كونه إرهابي. ذلك القانون الذي أصدره الرئيس الأمريكي بوش الابن، وحرص الرئيس أوباما على استمرار العمل به.
ثانياً: قانون يسمح بجواز احتجازأي مواطن من قبل قوات الجيش الأمريكي، عند الاشتباه في ضلوعه في أعمال إرهابية. وقد رفضت الإدارة الأمريكية أي محاولات لانتقاد هذا القانون، أو توجيه تهم له بخرق الحريات.
ثالثاً: أكدت الإدارة الأمريكية على وجود قانون ينزع الحصانة الشرعية عن المواطنين، حال تشكك الدولة فيهم. وهو نفس القانون الذي تنتقده أمريكا، نفسها، في دول أخرى مثل الصين وكمبوديا. وبموجب هذا القانون، يحق للرئيس الأمريكي، إرسال متهمين للمثول أمام محاكم فيدرالية أو عسكرية، دون إبداء أسباب. وهو ذات الإجراء الذي هاجمته الولايات المتحدة في دول مثل مصر والصين.
رابعاً: أشارت الصحيفة إلى قانون معمول به في الولايات المتحدة، وهو إمكانية فرض المراقبة على الأفراد دون إخطار، حيث نص القانون على حق السلطات الأمريكية في استخدام إدارة الأمن القومي، لمعرفة أية بيانات خاصة بالمواطنين، بل وإجبار الشركات على تسليم تلك البيانات، دون إعلام، أو حتى إخطار، هؤلاء الأفراد بخضوعهم للمراقبة. ولقد انتقدت أمريكا دولاً أخرى، مثل السعودية وباكستان، لتطبيقهما قوانين شبيهة لذلك.
خامساً:أما القانون الخامس، فينص على حق السلطات الأمريكية باعتقال، ومحاكمة المدنيين الأمريكيين، أما المحاكم العسكرية، دون الإفصاح عن قرائن المحاكمة، باعتبارها دلائل سرية، تمس الأمن القومي الأمريكي. وهو ما أدانته في مصر، على سبيل المثال، منادية بمحاكمة المدنيين أمام قاضيهم الطبيعي، بل وتمادت في المناداة بعلانية المحاكمات، دونما أي اعتبار للأمن القومي المصري.
سادساً: احتفظت الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها بالحق في عدم السماح للمحاكم الدولية، أو محاكم الدول الأخرى، على محاسبة المواطنين الأمريكيين، أو حتى التحقيق معهم، فيما يخص ارتكابهم جرائم حرب!
سابعاً: تمتلك الولايات المتحدة عدداً من المحاكم السرية، التي تعمل على المراقبة السرية للمتهمين، وذلك من خلال أوامر مباشرة من الرئيس الأمريكي، وليس الإجراءات القضائية، الأمر الذي من شأنه اختراق خصوصية المواطن الأمريكي.
ثامناً: تقوم الإدارة الأمريكية بفرض حماية خاصة، غير خاضعة للقضاء الأمريكي، على الشركات التي تساعدها في التجسس على المواطنين المدنيين.
تاسعاً: إصدار قانون يتيح للسلطات إمكانية تغيير محل إقامة أي شخص بالإجبار (نقل تعسفي)، وذلك بنقله من ولاية لأخرى، دون إبداء أسباب … وإنما لمجرد الاشتباه!
وتختتم صحيفة “الواشنطن بوست” تحقيقها، قائلة أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول جاهدة ترسيخ فكرة أنها “أرض الأحلام … والحريات”، وأنها النموذج الوحيد في العالم، الذي يحترم حقوق الإنسان … وتضيف الصحيفة قائلة، أن هذا كله “فقاعة هواء”، فهي تحبس المواطنين بداخلها، لتصرف نظرهم عن موضوعات أخرى تدور حولهم.
ولم يبدأ هذا التقييد لحقوق الإنسان، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بل سبق ذلك أحداثاً أخرى، تدلل على عدم التزام الولايات المتحدة، بما تدعيه. وليس أدل على ذلك ما حدث عام 1993، عندما قامت الشرطة الأمريكية، والجيش الأمريكي، بتنفيذ عملية خطيرة، على مزرعة ماونت كارمل بولاية تكساس، تلك العملية التي هزت الرأي العام الأمريكي، آنذاك. حيث اعتصم بالمزرعة متطرف أمريكي يدعى “ديفيد كوريش”، وعدد من أبناء طائفته، فاستصدرت السلطات الأمريكية إذناً بتفتيش المزرعة، وعند تنفيذ المهمة في 21 فبراير 1993، فوجئت القوات بإطلاق النار عليها من المزرعة، مما تسبب في قتل أربعة أفراد من الشرطة. وتم استدعاء قوات من الجيش الأمريكي، وفرض حصار حول المزرعة لمدة 51 يوماً، عرف باسم “حصار واكو”. وعندما فشل الحصار في إرغام المعتصمين على الاستسلام، قامت القوات الأمريكية باقتحام المزرعة، يوم 29 أبريل 1993، مع علمها المسبق بوجود أطفال رضع ونساء، إلا أن ذلك لم يثني القوات عن إتمام المهمة، فكانت نتيجتها قتل 76 شخصاً من المعتصمين، من بينهم 22 طفلاً. ولم ينج من العملية سوى 9 أشخاص، مازال بعضهم على قيد الحياة، يروي أهوال تلك العملية.
والآن … عندما نستعرض كل هذه الحقائق … وما تتبناه الولايات المتحدة، فعلاً لا قولاً، من مبادئ حقوق الإنسان، ثم نراها تنتقد وتهاجم مصر على انتهاكها لحقوق الإنسان، فلا يسعنا إلا أستحضار تجاوزاتها في سجن جوانتانامو … وتذكر ما فعله الجنود الأمريكيون في سجن أبو غريب بالعراق، وهو ما يعد أقصى انتهاكات في تاريخ البشرية!!
وانطلاقاً من تلك الحقائق، كانت نقاشاتي مع أعضاء الكونجرس الأمريكي، ومهما حاولوا من تقديم مبررات أو ردود، فعلينا، نحن المصريون، أن نعي دوماً، أن ما تسوقه أمريكا عما يحدث في مصر وغيرها من الدول، إنما هو “فقاعات هواء”، في محاولة منها لإثبات أنها معقل الديمقراطية في العصر الحديث.
أما نحن هنا، في مصر، فنؤكد أننا شعب يحترم ابناؤه، ولكنه لن يرضى بالإرهاب وترويع المواطن المصري، وأن كل ما يتم من إجراءات، تكون، دائماً، في إطار القانون، وعلى أيدي رجال القضاء الشرفاء.