حرب أكتوبر 1973.. في الميزان
تمر السنين … وتتعاقب الأيام … وتتوارى الأحداث .. ويظن البعض أنها قد اختفت … أو دخلت دائرة النسيان … لكنها في الحقيقة تظل محفوظة ومحفورة في ذاكرة التاريخ .. التي لا تنسى الأحداث، مهما مر الزمان. تظل، ذاكرة التاريخ، متفاعلة … تدرس … وتحلل … بل وتبعث من جديد … عند ظهور حقائق، أو معلومات جديدة … لتخرج علينا بتحليلات، واستنتاجات، تتناسب مع المعطيات الجديدة، لتثرى المعلومات التاريخية.
واليوم، وبعد أكثر من أربعين عاماً مضت على حرب أكتوبر 1973، فإن مراكز الدراسات الاستراتيجية، والمعاهد العسكرية، في العالم كله، ما زالت تدرس نظريات هذه الحرب، وتحلل الأفكار والمفاهيم العسكرية، وخاصة، تلك، التي قدمها الجانب المصري أثناء الحرب.
لقد كانت حرب أكتوبر 1973، بلا أدنى شك، أحد أهم، وأعظم، الأحداث التاريخية في العصر الحديث … والتي غيرت العديد من المفاهيم … والأفكار … والتحولات السياسية … والاستراتيجية … والعسكرية … ليس في الشرق الأوسط فحسب … بل امتدت آثارها إلى العديد من مناطق الصراع حول العالم.
ومع انتهاء أعمال القتال في حرب أكتوبر 1973 … بدأت وسائل الإعلام تتناول هذا الحدث … وبدأت الأقلام تكتب … في محاولات لتغطية مختلف جوانب هذا الحدث الجلل … خاصة السياسة، والعسكرية منها. وفي البداية، كانت الاتجاهات الأكثر وضوحاً، هي الاتجاهات السياسية؛ فلقد تغير شكل الصراع في منطقة الشرق الأوسط … بعدما كانت مشكلة الشرق الأوسط أشبه بالجسد المحتضر، خاصة مع رضاء القوى العظمى باستمرار “حالة اللاسلم واللاحرب” القائمة آنذاك. فالقوى الكبرى تنأى بنفسها عن التورط في نزاعات أو صراعات مباشرة، أو حرب لا يعلم أحد نتائجها … خاصة، في ظل وجود دلائل، وشواهد، وتقديرات عسكرية تشير إلى أنه لا أمل، عسكرياً، أمام المصريين والسوريين، في إحراز أي نصر عسكري أمام جيش الدفاع الإسرائيلي … في أي صراع عسكري محتمل.
والواقع أن القوات المسلحة المصرية، كانت قد بدأت، فور هزيمة 1967، في عملية إعادة تنظيم، وتسليح الجيش المصري، الذي كان قد فقد أكثر من 70% من أسلحته، ومعداته، سواء عندما دمرت القوات الجوية الإسرائيلية الطائرات المصرية على الأرض في المطارات المصرية، أو أثناء مرحلة الانسحاب من سيناء. وبدأ الجسر الجوي، الجديد، بين مصر والاتحاد السوفيتي، في نقل الأسلحة والمعدات السوفيتية إلى مصر.. وشرعت القوات المسلحة المصرية في إعادة تنظيم قواتها، فوراً … وهنا يجب علينا أن نشير إلى الفضل الكبير، في هذه المهمة، للفريق محمد فوزي وزير الحربية، الذى عينه الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967، بعد إقالة المشير عبد الحكيم عامر، ورجاله. وبدأت القوات المسلحة المصرية، تحت القيادة الصارمة للفريق فوزي، في بناء خط الدفاع الرئيسي غرب قناة السويس، الذي استمر العمل فيه لمدة عام، اطمأن، بعدها، الرئيس عبد الناصر إلى أن الدفاعات المصرية، بتنظيمها، وتسليحها، قادرة على إدارة معركة دفاعية أمام الجيش الإسرائيلي، إذا حاول اختراق قناة السويس.
وفي هذه الأثناء، كانت القوات المسلحة المصرية قد حققت عدداً من الأعمال، التي كان من شأنها رفع الروح المعنوية للمقاتل المصري، التي فقدها، للأسف، بعد هزيمة 67. كان من أهم هذه الأعمال، معركة رأس العش، حين حاولت القوات الإسرائيلية، شرق القناة، التقدم في اتجاه مدينة بورسعيد، للاستيلاء على مدينة بورفؤاد، فتصدت لها مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية، وأوقفت تقدم القوات الإسرائيلية، فكان نصراً عظيماً، تذوق المصريون حلاوته لأول مرة. كما كان للقوات الجوية المصرية دور كبير، في هذه الفترة، عندما قامت بغارة مفاجئة على العدو الإسرائيلي، في عمق سيناء، مما أعطى دفعة جديدة للجيش المصري، وتأكد من قدرة قواته الجوية على التصدي لأسطورة جيش الدفاع الإسرائيلي، المتمثلة في قواته الجوية. ثم جاءت الضربة القاتلة للبحرية الإسرائيلية، بتدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات … أكبر القطع البحرية الإسرائيلية … أمام سواحل مدينة بورسعيد … وطلب الإسرائيليون، آنذاك، من القيادة المصرية، بالسماح لهم بانتشال القتلى والغرقى من الجنود الإسرائيليين، دون تدخل من القوات المصرية … في عملية إنسانية.
وسوف يتوقف تاريخ العمليات البحرية طويلاً … أمام عملية إغراق المدمرة إيلات .. بقوارب لنشات الصواريخ المصرية … صغيرة الحجم. مما دفع مراكز الدراسات الاستراتيجية في العالم كله، وكذا مراكز البحوث في قيادات القوات البحرية في كل الدول، على الفور، إلى دراسة، وتحليل هذا العمل العسكري الغير نمطي. ولم تمض إلا شهور قليلة على حدوثه، إلا وكان العلم العسكري البحري قد شهد تغييراً حاداً في المفاهيم الخاصة بفكر تنظيم، وتسليح القوات البحرية. وفي المؤتمر السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن IISS، تم الإعلان عن المفهوم الجديد لتنظيم وتسليح أي قواى بحرية في العالم، والذي سيعتمد على الزوارق، واللنشات الصواريخ السريعة … بل أعلنوا أن عصر بناء البوارج، وحاملات الطائرات قد انتهى. وبعدها، أصبح تطوير القطع البحرية، يركز على تطوير تلك الزوارق الصاروخية، التي حقق بها المصريون هذه المعجزة، التي غيرت الفكر العسكري في العالم كله.
وبعد مرور عام، تقريباً، من هزيمة 1967، أعطى الفريق محمد فوزي، وزير الحربية، “التمام” للرئيس جمال عبد الناصر، بجاهزية الخطة الدفاعية غرب القناة … وعليه، فقد أصدر الرئيس جمال عبد الناصر أوامره بالبدء في التخطيط للعملية الهجومية لاقتحام قناة السويس وتحرير سيناء. في هذه الأثناء، كانت حرب الاستنزاف قد بدأت على ضفاف قناة السويس، بين الجيشين المصري والإسرائيلي، قام، خلالها، الجيش الإسرائيلي بتنفيذ عدد من الضربات والهجمات في عمق الأراضي المصرية، إذ قام بمهاجمة مدن القناة … في بورسعيد، والإسماعلية، والسويس … وقامت القيادة السياسية، آنذاك، بتهجير أبناء هذه المدن إلى الدلتا … والتهبت هذه المدن بنيران المدفعية الإسرائيلية.
في هذا التوقيت، كانت القوات المصرية قد بدأت في التدريب على عمليات عبور الموانع المائية في أنهار دلتا النيل … بينما كانت إسرائيل تبني خط بارليف، على الضفة الشرقية لقناة السويس. واستمرت حرب الاستنزاف نحو خمس سنوات … لا شك أن الجيش المصري، تعلم خلالها الكثير والكثير، كما أنه استغل مدتها في بناء حائط الصواريخ المضاد للطائرات، الذي أصبح، بعد أكتوبر 1973، رمزاً من رموز تطوير الفكر العسكري، في العقائد القتالية، في العالم بأسره. أذكر جيداً وجودي في غرفة القوات المسلحة، على الجبهة، أثناء حرب أكتوبر 73، وأنا استمع إلى رسالة مفتوحة … غير مشفرة … من قائد القوات الجوية الاسرائيلية، لجميع قواته “بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كيلومتر” … تزامناً مع بدء اقتحام القوات المصرية للقناة السويس … الأمر الذي أعطى حرية الحركة للقوات المسلحة المصرية لاقتحام قناة السويس … وتدمير خط بارليف … وتنفيذ أعمالها القتالية … دون تدخل من القوات الجوية الإسرائيلية .. وهو ما يوضح مدى تأثير حائط الصواريخ المصري، على شل قدرة طيران العدو على تقديم العون لقواتهم على الأرض، محطماً بذلك أسطورة “اليد الطولى” لإسرائيل، وهي سلاحهم الجوي، الذي طالما تغنوا به بعد نجاح الضربة الجوية الإسرائيلية في عام 1967.
ومع انغماس القوات المصرية في التدريب على عمليات العبور … ظهرت العديد من المشاكل أمام المُخطط المصري … فكان منها، على سبيل المثال، مشكلة ارتفاع الساتر الترابي على الضفة الشرقية لقناة السويس، حيث كانت مخرجات تطهير قاع قناة السويس يتم تجميعها على الضفة الغربية للقناة، ووصل ارتفاعها إلى نحو 20 متر، وكانت إزالته ضرورية للتمكن من عمل فتحات الكباري للعبور! فجاءت فكرة المهندس العسكري المقدم/ باقي يوسف زكي، باستخدام المضخات المائية، التي كانت تستخدم في بناء السد العالي، في هدم ذلك الساتر الترابي. كذلك كان هنالك أسلوب التعامل مع أنابيب النابالم، التي وضعتها إسرائيل على ضفاف القناة، فتم التخطيط لتخطي هذا العائق، بأن تتقدم مجموعات من الصاعقة المصرية، قبيل بدء الهجوم، لسد أنابيب النابالم أو تفجير خزاناتها. كما كانت نقاط خط بارليف الحصينة، أحد المشاكل أمام المخطط المصري للهجوم، فما كان إلا أن تكونت مجموعات قتال خاصة، لمهاجمة كل نقطة دفاعية من نقاط خط بارليف.
تلك كانت لمحات سريعة، من شاهد عيان، لما تم في ميادين القتال … لكن ما لا يقل أهمية، عن كل ذلك، هو ما حدث في مراكز الدراسات الإستراتيجية … وما قام به المحللين، والمفكرين العسكريين، بعد انتهاء حرب أكتوبر 73، حيث عكف الجميع، على دراسة وتحليل تلك الحرب، والاستفادة مما قدمه المصريون، من فكر عسكري متطور … سواء في تطوير أساليب القتال … أو إعادة تنظيم القوات … أو في حساب التوازنات العسكرية.
لقد كان من أهم الإضافات التي حققتها حرب أكتوبر، لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، هو مبدأ “النوعية”، فقد كان الاتجاه في مقارنة القوات، قبل حرب أكتوبر، تعتمد، فقط، على أعداد الأسلحة والمعدات … الدبابات، والمدفعية، والطائرات، والغواصات، والمدمرات … ولعل أشهر هذه الدراسات ما كان يقدمه معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن IISS، في تقريره السنوي، الشهير “التوازن العسكري” The Military Balance، والذي كانت تعتمد مقارناته، بين القوات العسكرية، لكل جولة، على عدد المعدات والأسلحة التي تمتلكها. وجاءت حرب أكتوبر 73، لتقلب هذه الموازين، تماماً، خاصة وأن هذا التقرير كان قد ظهر، في نسخته السنوية، قبل حرب أكتوبر، مؤكداً التفوق الكامل لإسرائيل، مما أسهم في إقناع العديد بأن مصر لن تغامر بالحرب، والهجوم على إسرائيل.
وأفرزت حرب أكتوبر، عاملاً جديداً … لم يظهر من قبل في حسابات القوى … وهو الجندي المصري. ذلك الجندي الذي دفع الجنرال شارون، في مناظرة، معي شخصياً، عن حرب أكتوبر 73، أذاعها التليفزيون البريطاني، عند سؤاله عما يراه مفاجأة حرب أكتوبر؟ وإذا ما كان يعتبرها توقيت الهجوم في الثانية ظهراً؟ أم اختيار موعد الهجوم في يوم عيد الغفران في إسرائيل؟ أم إن كانت المفاجأة في الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية في وقت واحد؟ دفع هذا الجندي المصري، الجنرال شارون، للإجابة بأن المفاجأة الحقيقية في حرب أكتوبر 73، كانت “الجندي المصري الذى وجدته يحارب أمامي في عام 1973، لم يكن نفس الجندي المصري الذي حاربته في عام 1967، أو حتى عام 1956”. وازددت فخراً، بانتمائي للمؤسسة العسكرية، وأنا أسمع هذا الرد، فالجندي المصري عام 1973، اختلف بالفعل، وأصبح من حاملي الشهادات العليا … وروحه المعنوية في السماء … وإيمانه بالنصر كان أقوى من كل الحسابات والتوقعات. واستطرد الجنرال شارون، ضارباً مثالاً، لما شهده بنفسه، أثناء قيادته لسرية مكونة من 10 دبابات، في اتجاه الإسماعيلية، بهدف الهجوم على منطقة الدفرسوار، وظهر أمامه، فجأة، خمسة “كوماندوز” مصريين (يقصد من قوات الصاعقة)، وهو ما يعني هلاكهم، بكل المقاييس العسكرية، إلا أن هؤلاء الأبطال، تأكدوا من تحطيم سرية الدبابات الإسرائيلية، قبل أن ينالوا شهادتهم. وهي المعركة التي أصيب فيها شارون، وتم نقله، على أثرها، إلى إسرائيل. وأضاف شارون، أثناء المناظرة، أنه يجب على إسرائيل، في أي حرب قادمة، وضع نوعية هذا الجندي المصري الجديد في اعتبارها.
ويرجع الفضل للمقاتل المصري، وما حققه، في حرب 1973، في أن قامت معاهد الدراسات الاستراتيجية، والمعاهد العسكرية، بالفعل، بإضافة بنداً جديداً لحسابات القوى ومقارنة القوات … وهو حساب “النوعية القتالية” … ويقصد بها الفرد المقاتل. وهو العامل الذي كان غائباً، من قبل عن كل الحسابات والتقديرات، بما أدى إلى نتائج مغلوطة عن تفوق جيش الدفاع الإسرائيلي.
وختاماً، لا يسعنا ألا أن نقر الانتصار المصري في حرب أكتوبر 1973، قد غير العديد من المفاهيم في مجال الفكر العسكري العالمي … وأنا على يقين، بأن الوثائق، التي يحتفظ بها كل جانب، مازالت تحمل في طياتها العديد والعديد من العِبر والدروس المستفادة، التي من شأنها إضافة مبادئ جديدة إلى العلوم العسكرية. وتظل هذه الحرب عملاً عسكرياً عظيماً … حققته القوات المسلحة المصرية، بالتعاون مع شعب مصر العظيم، وبمساندة من كل الشعوب والجيوش العربية … لترتفع هامات العرب جميعاً، بعد أعظم انتصارات العصر الحديث.