حكاية سد النهضة (3)

لواء دكتور/ سمير فرج
تناولنا عبر مقالين من هذه السلسلة حكاية سد النهضة منذ بدايتها عبر حوارات مع الصديق الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، ووصلنا إلى اكتمال البناء والتخزين بعد 14 سنة، وافتتاح السد الإثيوبي في بدايات سبتمبر الماضي.
ونتيجة لإصرار إثيوبيا الخاطئ إلى ملء بحيرة السد بكامل سعتها التخزينية في منتصف شهور الفيضان دون ترك فراغات لما هو قادم من مياه، اضطرت إثيوبيا في الأسبوع الأخير من سبتمبر إلى فتح عدد من البوابات صرفت خلالها نحو 7.6 مليار م3 خلال عشرة أيام فقط أي مايعادل تدفق 25 مليار م3 في الشهر وهو ضعف أقصى كمية مياه معتادة في ذروة الفيضان في يوليه وأغسطس، بما تسبب في فيضانات جارفة في السودان تسببت في مقتل عدد من الأشقاء في ولايتي كسلا والنيل الأزرق وهددت سدود هاتين الولايتين بالانهيار بخلاف تدمير وغمر المنازل وتوقف الحياة. هذا الأمر سبق أن أوضحته مصر بحتمية الإدارة المشتركة لمياه هذا السد بما يمنع هذه الأضرار على السودان ومصر بسبب فيضان من صنع أخطاء البشر وليست من صنع الطبيعة بسبب المكابرة وتغليف الباطل بالحق وادعاء السيادة على مياه مشتركة. كان من المتوقع أن تصل هذه الكميات الكبيرة من المياه إلى مصر وتحدث بها أضرارا مماثلة لما حدث في السودان لولا وجود السد العالي وبحيرة تخزينه الكبيرة والتي أنقذت مصر من هذا الفيضان البشري كما أنقذتها من قبل من فيضانات مماثلة وأنقذتها أيضا من سنوات عجاف طويلة أخرها التي امتدت سبع سنوات من 1981 وحتى 1988.
وعبر المفاوضات الطويلة طالبت مصر الجانب الإثيوبي بأن تكون هناك أولوية لمرور المياه لدولتي المصب خلال السنوات العجاف والتي قد تمتد لسبع سنوات وألا تكون الأولوية لتخزين هذه المياه القليلة، بل وعرضت مصر أن تكتفي إثيوبيا في السنوات العجاف بتوليد 80% من المستهدف توليده من الكهرباء وهو رقم كبير للغاية ولا يسبب أضرارا لإثيوبيا لأن الحق في الحياه للبشر في السنوات العجاف أهم من توليد الكهرباء، كما وأن أضرار السنوات العجاف ينبغي أن يتحملها الجميع وليس مصر فقط خاصة أن مخزون مياه السد الإثيوبي لن تستخدم في الشرب ولا في انتاج الغذاء بعكس الحال في مصر والسودان. رفضت إثيوبيا هذا المطلب الإنساني والواجب وأصرت على تعنتها في رفض أي مقترحات يمكن أن تفيد غيرها.
حذرت مصر إثيوبيا من تبعات تغير المناخ والتي يمكن أن تضرب منابع النهر في إثيوبيا وفي منابع النيل الأبيض وأن التوقعات التي ترقى إلى حد اليقين تشير إلى أن التغيرات المناخية المستقبلية قد تؤدي إلى احتمالات لتراجع نسب الهطول في إثيوبيا باحتمال 70% مع حدوث إزاحة للأمطار شمال كما رأينا في السنوات السابقة بالهطول الصيفي غير المعتاد في السعودية والإمارات والكويت وأسوان مصر وهى أصلا من أمطار الهضاب الحبشية. هذا الأمر يتطلب التعاون الكامل بين مصر وإثيوبيا والسودان لوضع إستراتيجية مستقبلية للتعامل مع تداعيات تغير المناخ.
ولأن البند العاشر من إعلان مبادئ سد النهضة الموقع بين الدول الثلاثة ينص على أنه إذا لم يتوصل خبراء الدول الثلاثة لمصر والسودان وإثيوبيا لحلول يتوافق عليها الجميع فيما يخص الملء والتشغيل والتعامل مع السنوات العجاف وضمان حد أدنى من المياه تخرج من السد الإثيوبي، فيتم رفع الأمر إلى رؤساء الدول الثلاثة للتوصل إلى حل سياسي حيث أن الأمور الفنية لا يوجد بها حلول وسط كما في الحلول السياسية، وإذا لم يتحقق الأمر يتم الاتفاق على وسيط دولي لتقريب وجهات النظر وتوقيع اتفاق. وطبقا لذلك استجابت الدول الثلاث إلى دعوة الرئيس ترامب في ولايته الأولى وتم عقد اجتماعات استمرت ثلاثة أشهر في واشنطن حتى فبراير 2020 وتم التوصل إلى اتفاق ارتضاه الجميع ووقعت مصر، ولكن إثيوبيا تراجعت عن موافقتها ورفضت التوقيع وانسحب الوفد الإثيوبي.
كان سد النهضة من الأمور الضاغطة على مصر للإسراع بتنفيذ إستراتيجية التعامل مع الشح المائي بسبب الزيادة السكانية وتغير المناخ ثم السد الإثيوبي، وتضمنت الإستراتيجية ثلاثة بنود رئيسية وهو تنمية وزيادة الموارد المائية بتحلية مياه البحر والتوسع في إعادة استخدام مياه المخلفات بعد معالجاتها والكشف عن مياه جوفية، ثم تقليل الفواقد مع ترشيد الاستخدامات بتبطين الترع وتحديث طرق الري، وأخيرا إعادة هيكلة السياسات الزراعية بتقليل مساحات الزراعات عالية الاستهلاك للمياه والتحول إلى الزراعة في الصوبات الزراعية الموفرة للمياه مثل مشروع المائة ألف صوبة.
وفي النهاية نود أن نشير إلى أن مستشار الرئيس الأمريكي لشئون الشرق الأوسط وأفريقيا أعلن أن الرئيس ترامب أعطى توجيهات بالتدخل للمرة الثانية في ولايته الجديدة لاستضافة جولة مباحثات للوصول إلى اتفاق بين مصر والسودان وإثيوبيا، وسيكون إنجازا كبيرا للرئيس ترامب. وهكذا عزيزي القارئ نكون قد قدمنا من خلال المقالات الثلاث خلال الأسابيع الماضية ملف كامل يوضح حكاية سد النهضة وينبغي أن نذّكر بأن الرئيس السيسي تسلم هذا الملف في 2014 بعد ثلاث سنوات من بدء بناء السد وتعامل مع أمر واقع، وأن الرئيس قال بقوة أن مصر لن تعطش أبدا وأن المياه خط أحمر.
Email: sfarag.media@outlook.com