عندما سقط أردوغان في برلين
ثلاث سنوات قضيتها في تركيا، ملحقاً عسكرياً لمصر، في عاصمتها أنقرة، تمكنت خلالهم من الاقتراب من صناع القرار، ومن الشعب التركي، الذي لمست منه حبه لمصر والمصريين، وشهدت أزهى فترات العلاقات الثنائية بين البلدين، في عهد الرئيس الأسبق، تورجوت أوزال، الذي كانت مراسم استقباله للرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، في زيارته لتركيا، حديث وسائل الأعلام المحلية، والعالمية، لما تميزت به من حفاوة بالغة، مقارنة بما قدمه للرئيس الفرنسي، الذي زار تركيا في نفس العام.
برحيل أوزال، ظهر التيار السياسي الديني، في تركيا، متمثلاً في حزب الرفاه الإسلامي، برئاسة نجم الدين أربكان، الذي ترأس الوزارة، بعد إجراء انتخابات، لأول مرة، منذ عهد أتاتورك. في تلك الأثناء، عام 1994، ظهر أردوغان، لأول مرة، كمرشح حزب الرفاه الإسلامي في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، وبعد أربعة أعوام من شغله للمنصب، تم عزله، وسجنه، ومنعه من تقلد مناصب حكومية، أو الترشح لانتخابات عامة، بتهمة التحريض على الكراهية الدينية.
في محاولاته للمناورة، أسس أردوغان حزب العدالة والتنمية، في عام 2001، باعتباره حزب ليبرالي، بعيداً عن السياسة الإسلامية، وحقق به انتصارات سياسية، في 2002، إلا أن تهمته السابقة حرمته من تولي رئاسة الحكومة، فاختار لها صديقه عبد الله جول، الذي عمل على رفع الحظر عن تولي أردوغان المناصب الحكومية، ليتولى أردوغان رئاسة الوزراء، في مارس 2003. بعد سنوات من العمل على تشكيل قاعدة شعبية، ظهرت نواياه الحقيقية للسيطرة على مقاليد الحكم في تركيا، فيما وصفه المحللون السياسيون بأنها سياسة عثمانية جديدة، خاصة بعدما فرضت حكومته، في عام 2013، قيوداً على حرية الصحافة، والإعلام، وفرضت حظراً على مواقع التواصل الاجتماعي.
على أثر ذلك، وجه الاتحاد الأوروبي أولى ضرباته لأردوغان، بتجميد المفاوضات الجارية لانضمام تركيا إليه، إلى أن قرر، نهائياً، عدم ضمها، في أعقاب رد فعل النظام التركي على محاولة الانقلاب المزعوم، في يوليو 2016، الذي اتخذه أردوغان ذريعة للتخلص من معارضيه، بحملة من الاعتقالات بين صفوف القضاء، والشرطة، والصحافة، إضافة إلى كسر قامة القوات المسلحة التركية، بعدما كان قد تولى رئاسة تركيا، وعدل دستورها، لنقل الصلاحيات التنفيذية للرئيس، ومنذ ذلك الوقت أحكم أردوغان قبضته على الحكم في تركيا. إلا أن الضربات توالت عليه، بعدما خسر حزبه مقاعد انتخابات البلديات في إسطنبول، وأنقرة، وأنطاليا، وإزمير، وفاز أكرم أوغلو، أكبر تهديد لأردوغان في الانتخابات الرئاسية المقررة في 2022، بانتخابات إسطنبول، التي قال عنها أردوغان، من قبل، أن من يحكمها، يحكم تركيا.
فجأة ظهرت ثروة الغاز الطبيعي، في شرق البحر المتوسط، أمام السواحل المصرية، وقطاع غزة، وإسرائيل، ولبنان، وسوريا، وقبرص، واليونان، في ظل تأكيد الدراسات الجيولوجية الدولية، بعدم اشتراك تركيا في تلك الثروة، مما أثار جنون أردوغان، وأطماعه، فبدأ بالتحرش بقبرص، استناداً على تبعية ثلث الجزيرة القبرصي لتركيا، وقام بإرسال معدات للتنقيب، إلا أن الاتحاد الأوروبي، الذي تعد قبرص أحد أعضاؤه، تصدى له، بفرض عقوبات، وإن كانت محدودة الأثر، إلا أنها كبيرة المعنى. تابع أردوغان خطواته الجنونية، فوجد ضالته في شخص فايز السراج، رئيس حكومة طرابلس، الباحث عن طوق نجاة، أمام الجيش الوطني الليبي، بقيادة الفريق خليفة حفتر، فغازله، أردوغان، بإرسال مساعدة عسكرية من المدرعات، وعدد من الطائرات التركية، المسيرة بدون طيار. ومع اشتداد ضربات الجيش الوطني الليبي، وتحرير مدينة سرت، هرول فايز السراج لتوقيع اتفاقين مع تركيا؛ أحدهما أمني، والثاني لترسيم الحدود البحرية مع تركيا، وهو ما سعى إليه أردوغان، تماماً، للتسلل، عنوة، إلى غاز شرق المتوسط الليبي.
استنكر المجتمع الدولي الاتفاقات الموقعة، واعتبرها غير قانونية، لعدم امتلاك السراج صلاحية توقيعها، واتهمه البرلمان الليبي بالخيانة العظمى، لاستدعاء قوات أجنبية للتدخل في البلاد، بينما بدأ أردوغان في ارسال المرتزقة من شمال سوريا، إلى طرابلس، الأمر الذي أثار دول الجوار، والدول الأوروبية على ساحل البحر المتوسط، فدعت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لحل المشكلة الليبية، من خلال مؤتمر برلين، بحضور قادة الدول الكبرى. يذكر أن التحرك السياسي المصري، الذي قاده باقتدار السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان بمثابة حجر الأساس لمؤتمر برلين، والذي بدأ باستضافة القاهرة لاجتماع وزراء خارجية الدول الأربعة فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص، مع نظيرهم المصري، والذي خرج ببيان يرفض التدخل العسكري في ليبيا.
خرج أردوغان قبيل المؤتمر، بسيل من التصريحات، مفاداها أن الأزمة الليبية لن تجد حلها إلا عن طريق أنقرة، فإذا بمؤتمر برلين يوجه له صفعة، جديدة، بتغييبه عن اجتماع القادة الكبار، الرئيس السيسي، والمستشارة ميركل، والرئيس بوتين، والرئيس ماكرون، ورئيس الوزراء الإيطالي كونتي، لوضع الخطوط الرئيسية لحل الأزمة الليبية، بتبني الرؤية المصرية، الداعية إلى الحل السياسي، دون غيره، ومنع التدخل الأجنبي في الأراضي الليبية، حفاظاً على وحدتها، وسلامة شعبها. فعاد أردوغان إلى تركيا، مطأطأ الرأس، بعدما كان قد أيده برلمانه في إرسال قوات إلى ليبيا، فإذا بقوات الناتو، تراقب مداخل ليبيا، براً وبحراً، لمنع وصول أي إمدادات عسكرية إلى فايز السراج. فخرج بتصريح، جديد، لايقل في سطحيته عن سابقيه، بأنه لم يرسل قوات تركية مقاتلة إلى ليبيا، وإنما أرسل عناصر للتدريب.
استمراراً لمسلسل التخبط، استغل أردوغان قرار وقف إطلاق النار، وقام بإرسال مرتزقة، جدد، إلى طرابلس، الذين وصلت رواتبهم إلى عشرة أضعاف ما كان يتقاضوه في شمال سوريا، مما سيزيد الموقف اشتعالاً، وسيدفع الدول إلى سرعة إصدار قرارات برلين، من الأمم المتحدة، تحت البند السابع، في محاولة لتهدئة الموقف، وإبعاد أردوغان عن التدخل العسكري، لدعم فايز السراج في طرابلس. ولتغطية خسارته في برلين، قام بزيارة للجزائر، في محاولة للتحالف مع الجار المباشر لطرابلس، تاركاً خلفه كارثة الزلزال الذي ألم ببلاده، فإذا به يتلقى صفعة، جديدة، مدوية، في تصريحات الرئيس الجزائري، برفض بلاده لأي تدخل عسكري خارجي في ليبيا.
ورغم أن قرارات برلين لم تتعرض إلى ترسيم الحدود البحرية بين طرابلس وتركيا، بالمخالفة للقوانين الدولية، وقرارات الأمم المتحدة، إلا أن ما خرج به المؤتمر من قرارات مثل صدمة كبيرة لأردوغان، وهو ما أظنه سيزيد من عدائه لمصر، ورئيسها، خاصة بعد المناورة العسكرية، “قادر 2020″، التي أجرتها القوات المسلحة المصرية، مؤخراً، وكانت رسالتها واضحة، لمن يعي، بأن مصر قادرة على حماية حدودها، ومقدراتها، وثروات شعبها.