الذكاء الاصطناعي … هل يدخل في العمل العسكري (٢)

لواء دكتور/ سمير فرج
تناولتُ في مقالي السابق عدداً من الأفكار والخواطر المتداولة بشأن احتمالية دخول الذكاء الاصطناعي في مجال العمل العسكري، وهو ما يُعد تساؤلاً مشروعاً، في ظل ما يشهده عالمنا، اليوم، من طفرة تكنولوجية كبرى، تحمل في طياتها العديد من المزايا، ومثلهم من المساوئ، إن لم يحسن استغلالهاو وتوظيفها في المسار الصحيح.
وفي ظل تأثر المجالات العسكرية، بكل ما يحيط بها من تطور في المجالات المدنية، وحرصها على مواكبتها، بما يعود عليها بالنفع، مثلما أشرت، من قبل، للخطوات التنفيذية التي اتخذها وزير الدفاع الأمريكي، الأسبق، روبرت ماكنمارا، مع بداية ظهور الحواسب الآلية، حين استفاد من قدراتها، حينئذ، في أبحاث وعمليات القوات المسلحة الأمريكية، ليصبح بعدها أداة رئيسية في عمل الجيوش حول العالم. فبناءً على هذا النهج، يتصاعد، الآن، الحديث عن الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح يُستخدم في تطبيقات متعددة، من أبرزها تحليل البيانات، والتوجيه نحو اتخاذ قرارات، بعينها، وما يمثله ذلك من على تحسين نوعية القرارات العسكرية، وزيادة دقتها، وفاعليتها.
ولعل أحد أهم مزايا الذكاء الاصطناعي في تعزيز القدرات العسكرية، هو إسهامه، بشكل مباشر، في سرعة تحليل كم هائل من البيانات الواردة من مصادر متنوعة، كالأقمار الصناعية، والطائرات المسيرة بدون طيار، “الدرونز”، وغيرها من مختلف وسائل الاستطلاع والحصول على المعلومات، بما يساعد في تتبع التحركات العدائية، وتحديد الأهداف بدقة، وهو ما يتيح للقادة اتخاذ قرارات فورية، وأكثر فاعلية، في أرض المعركة، بما يحققه من تكامل، على سبيل المثال، مع الدرونز، إذ يعزز من قدراتها في كشف مخابئ الأسلحة والإرهابيين.
فبفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت الطائرات بدون طيار قادرة على التحليق بشكل مستقل، وتجاوز التضاريس الصعبة، وتحليل البيانات البصرية في نفس الوقت، والتعرف على الأهداف أو الحركات المشبوهة بسرعة، مما يقلل من المخاطر على حياة الجنود، إذ تتلقى الطائرة المُسيّرة المهمة وخط السير، قبل إقلاعها، وبعد بدء مهمتها، يتمكن الذكاء الاصطناعي من تغيير خط سيرها، دون الرجوع للقائد، في حال اكتشاف رادارات، أو صواريخ دفاع جوي، تهدد مهمتها.
ومن أبرز المظاهر الحديثة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب، هو دخوله في أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل، والتي تستطيع اتخاذ قرارات مستقلة بناءً على البيانات المجمعة، والتكيف مع تطورات أرض المعركة، في لحظات، دون الرجوع للقائد أو المستخدم. وقد بدأت بعض الدول بالفعل في استخدام صواريخ ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتغيير أهدافها أثناء الطيران، طبقاً لموقف العدائيات التي تظهر فجأة، وهو ما يجعلها أكثر دقة للوصول للهدف وتدميره.
ولا يتوقف دوره عند العمليات الميدانية، بل يمتد إلى دعم اتخاذ القرار حيث يستطيع الذكاء الاصطناعي مساعدة القادة العسكريين في تحليل سيناريوهات مختلفة وتقديم توصيات مبنية على كمّ هائل من المعلومات، مما يقلل من زمن الوصول للقرار ويزيد من دقته. كما يُعد الذكاء الاصطناعي وسيلة فعّالة للحد من الخسائر البشرية، عبر التوسع في استخدام الروبوتات والمركبات، التي لا يعمل عيها عناصر بشرية، في المناطق شديدة الخطورة، مما يضمن تقليل تعرض الجنود للمخاطر المباشرة في العمليات القتالية، ولعل أبسط الأمثلة هو الاعتماد عليها في كشف، وتدمير، حقول الألغام.
ورغم ما يقدمه الذكاء الاصطناعي من فرص هائلة في العمل العسكري، إلا أن هناك تحديات أخلاقية وقانونية لا بد من مواجهتها. فالاستخدام غير المنضبط لهذه التكنولوجيا قد يؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. لذا، من الضروري وضع إطار قانوني دولي صارم ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي في النزاعات المسلحة، ويضمن عدم تجاوز الحدود الأخلاقية في قرارات القتال والاستهداف.
ومع التقدم المتسارع، من المتوقع أن يزداد اعتماد الجيوش على الذكاء الاصطناعي؛ فالحروب القادمة ستكون أكثر تعقيداً، وستعتمد بشكل متزايد على تقنيات متقدمة، مما يتطلب تطويراً مستمراً لقدرات الذكاء الاصطناعي العسكري، حيث سيتكامل الذكاء الاصطناعي أيضاً مع تقنيات مثل إنترنت المعلومات والحوسبة السحابية، ما يفتح آفاقاً جديدة في تحليل البيانات واتخاذ القرارات بسرعة، ودقة، لم تكن ممكنة من قبل. لكن في الوقت نفسه، ستظهر تحديات أمنية جديدة تتعلق بكيفية حماية هذه الأنظمة من الهجمات المضادة، ما يستدعي تطوير تقنيات “مضادة للذكاء الاصطناعي” لمواجهة أي تهديد محتمل.
ورغم كل ذلك، فإنني على يقين من أن العقل البشري سيظل هو الأساس، ولا يمكن الاستغناء عنه في اتخاذ القرارات أثناء سير القتال، فرغم ما قد يتيحه استخدام الذكاء الاصطناعي من تسريع إطلاق نيران المدفعية، على سبيل المثال، إلا أن تحديد الأهداف لا يجب أن يُترك للذكاء الاصطناعي، الذي قد يتخذ قراراً بمهاجمة قرية مزدحمة بالسكان، غير مكترث بتدمير البشر، لمجرد ظهور هدف على شاشة الحاسب الآلي في تلك القرية. لذا أؤكد على ضرورة وضع ضوابط صارمة لاستخدام هذا الشكل الجديد من الذكاء الاصطناعي، للسيطرة، والتحكم، في نطاق عمله.
وفي الختام، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة حقيقية في ساحة المعركة، ورغم التحديات القانونية والأخلاقية التي ترافقه، إلا أن فوائده المتعددة قد تجعل منه ركيزة أساسية في بناء منظومات دفاعية أكثر كفاءة وأقل تكلفة بشرية. ويبقى الشرط الأساسي هو الاستخدام المسؤول والمنضبط لهذه التكنولوجيا، بما يضمن أمن الدول، وسلامة الإنسان.
Email: sfarag.media@outlook.com