الصيام والحرب
لواء دكتور/ سمير فرج
في كل تجربة من تجارب الحروب الأربع التي شاركت بها دفاعا عن أرض وطننا الغالي ، كان لشهر رمضان الكريم ذكريات مختلفة في كل واحدة من تلك الحروب الأربع ،وجميعها ذكريات لاتنسي ، وتعاودني كل عام كلما هل علينا الشهر الكريم ,
أولي هذه الذكريات في حرب اليمن التي أشتركت بها بعد تخرجي في الكلية الحربية بأشهر قليلة، كان عمري وقتئذ لا يتجاز الثامنة عشر ،وقد بقيت في اليمن ثلاث سنوات كاملة .
كان أول رمضان يمر علي هناك بعد وصولي بفترة قصيرة عام 1964 ، ليتم تكليفي وأنا قائد فصيلة بالهجوم علي جبل منعزل .
وبالفعل بدأت المهمة مع فصيلتي لنصل إلي قمة الجبل مساءا، وماكادت ساعات الليل أن تنتهي ويبدأ الصباح حتي بدأ هجوم العناصر اليمنية علي موقعي لتبدا المعركة التي أستمرت لثلاث ساعات ، تمكنا فيها من صد هجوم اليمنيين ، كما فقدنا فيها أول شهيد وكان رقيب الفصيلة .
لم تمضي سوي ساعات قليلة حتي فؤجئنا بأننا أصبحنا محاصرين من اليمنين ، وكان تعيين القتال الذي معنا قد بدأ في النفاذ بالفعل ففي اليوم الأول قمنا بتقسيم التعيين الذي لم يكن سوي قالب فولية علي قسمين جزء للإفطار وجزء للسحور ، ولم نكن نعلم ماذا سنأكل في الأيام التالية ونحن محاصرون بعد أن أبلغتنا القيادة أن فك الحصار لن يتم قبل ثلاثة أيام !.
نظرت حولي فلم أجد إلا الجبال الشاهقة التي تملؤها الصخور ،وفجأة وبينما أحاول البحث عن أي بارقة أمل ظهرت لي قرية صغيرة يمنية أسفل الوادي، فما كان مني إلا أن قمت بتعيين مراقب لمعرفة ما يدور بداخلها ، وبعد عدة ساعات أبلغني أن القرية قد هجرها أهلها نتيجة أعمال القتال وضرب المدفعية والطيران ،لم يكن أمامي حل سوي إرسال دورية قتال للقرية لعلي اجد ما يمكن ان اطعم به جنودي.
وبالفعل ذهبت الدورية للقرية ووفرت لها كل وسائل التأمين والجهاز اللاسلكي وعندما وصلت الدورية هناك ابلغوني ان القرية مهجورة تماما وقد غادرها اهلها. واخذوا معهم كل شيء ولكن الدورية فوجئت بوجود الزبيب المخزن فالقرية كانت تزرع العنب وهو من أجود ما تشتهر اليمن بزراعته طبقا للمقولة الشهيرة بلح الشام ولا عنب اليمن.
وعادت الدورية تحمل معها عدة أجولة من العنب والمياه وبالطبع تفنن جنودي بوضع الزبيب في المياه لمدة اربع ساعات بعدها تجد وجبة رائعة للإفطار والسحور. والحمد لله اننا امضينا أربعة ايام نعيش في الافطار والسحور على الزبيب المنقوع في المياه حتى تم فتح الطريق وفك الحصار.
وفي كل عام عندما يأتي رمضان، أتذكر أن الزبيب انقذنا من الموت جوعا فوق جبال اليمن.
أما الذكري الثانية من الصيام والحرب التي ما زلت اتذكرها تماما، قكانت خلال حرب الاستنزاف ، بعد حرب يونيو 67، وخلال ست سنوات كان موقعي في منطقة جنوب البحيرات على قناة السويس الذي يبعد عن خط بارليف مسافة 200 متر هي عرض قناة السويس. حيث كانت الاشتباكات مستمرة مع العدو الاسرائيلي طوال الست سنوات.
وفي رمضان كان العدو الإسرائيلي يفاجئنا بشيء مختلف كل يوم ، محاولا إستغلال معرفته بتوقيت الإفطار بعد أذان المغرب لذلك كان يتعمد اختبار بدء الإشتباك بالنيران وقت الغروب .
وفي اليوم الاول تمكنا من كشف حيلة العدو ، ولذلك لم نكن نوزع وجبة الافطار الا بعد المغرب بساعة، حتى تظل ساخنة، لان العدو الاسرائيلي كان يبدأ الاشتباك كل يوم مع بدء غروب الشمس.
ولذلك قمت بتقسيم جنودي إلى مجموعتين الأولى تنفذ الاشتباك مع العدو الاسرائيلي والثانية تستعد للإفطار بعد ساعة ، ثم يتم المناوبة بين المجموعتين.، كذلك أرسلت أحد جنودي إلى القاهرة لشراء التمور وكنت اوزع التمر عليهم فور الاذان طبقا للسنة الاسلامية
حتى يتم الافطار بعدها بساعة.
أما في المساء فكان نصيب موقعي من ضربات النابالم مع توقيت السحور،وهي الهجمات التي كانت تمتد إلى أكثر من ساعتين، خاصة اننا كنا نمضي وقتا طويلا في إطفاء النابالم المشتعل مع كل أجزاء الموقع ، وعلي هذا المنوال من المعارك مرت الست سنوات من حرب الإستنزاف .
أما الذكري الأجمل في حياتي عن شهر رمضان فكانت يوم العاشر من رمضان الموافق السادس من اكتوبر 1973، وكنت في مركز القيادة الرئيسي للقوات المسلحة وأتذكر يومها عندما وصل الرئيس السادات في الظهر ودخل المركز خلفه بعض الجنود ،يحملون صواني عليها السندوتشات وعصائر ،وتحدث من داخل المركز في الميكروفون لكل القادة والضباط والجنود ،ليتم ابلاغ كل القوات التي ستعبر اليوم قناة السويس وتهاجم خط بارليف، أنه حصل على فتوى من المفتي ليجوز لنا الافطار ،لأننا نحارب لاسترداد الارض، وقام الجنود بالمرور علينا لتوزيع سندوتشات والعصائر، ولكننا وضعناها في الدرج .
ويشهد الله أن ايا منا لم يتناول حتى رشفة مياه حتى عندما جاء موعد الإفطار فالجميع كان في لهفة وشوق لهذا اليوم الذي انتظرناه منذ ست سنوات كاملة وفي الثامنة مساء عندما جاءت المجموعة الثانية التي نتبادل معها الخدمة والتي ستقوم بالعمل خلال الليل كانت أول مرة لنا جميعا نأخذ رشفة مياه.
وبعد الحرب جمعني لقاء مع مجموعة الاصدقاء من كلية القادة والاركان. التي كنا ندرس بها وكان تخرجنا قبل الحرب مباشرة وهم محسن السلاوي، وأحمد سعودي، وكمال عامر واخذنا نتذكر معا أحداث الحرب كل منا يحكي عما حدث في موقعه وماذا تم وكانت المفاجأة أن الجبهة بالكامل لم يتناول فيها اي جندي او ضابط اي نوع من الطعام إلا بعد ثلاثة أيام ، فقد كانت فرحة العبور والنصر هي المسيطرة علي الكل ، وكانت رشفة المياه هي الزاد الوحيد للجميع بعد اذان المغرب حتي تطفئ لهيب حلاوة النصر ،خاصة انه عندما تم فتح الكباري كانت الاولوية الاولى لعبور الدبابات. وبعدها المدفعية وبعدها عربات الذخيرة واخيرا عربات الطعام.
ولكن فرحة الجميع بنجاح العبور، والنصر وتدمير خط بارليف، من جهة جعلت الجميع يتناسى الإفطار والسحور في شهر رمضان الكريم، لكي نحقق النصر العظيم لمصرنا الغالية ونستعيد أرض سيناء.