إطلالة على الاستراتيجية المصرية عام 2023
لواء. د/ سمير فرج
تحرص مصر فى بناء استراتيجيتها نحو التعامل مع الدول والتكتلات العالمية على المزج بين القواعد الراسخة التى تمنحها موقفها الثابت فى عدد من القضايا، والتى من بينها عدم المشاركة فى الأحلاف العسكرية أو السياسية، والمرونة التى تُمكنها من التواكب مع المتغيرات التى تفرضها الأحداث وبما يُمكنها من تحقيق مصالح أمنها القومى.
وبمراجعة المفاهيم الخاصة بالاستراتيجية والأمن القومى، نجد أن مصر تتحرك من خلال ما يُعرف بدوائر الأمن القومى، التى تنقسم إلى ثلاث فئات، هى الدوائر البعيدة، والدوائر القريبة، اللتان تتقاطعان فيما بينهما لتشكلا الفئة الثالثة، ألَا وهى الدوائر الخطرة، ذات الطبيعة المتغيرة، وفقًا لتغير الأحداث العالمية.
واليوم، سنتناول الحديث عن الاستراتيجية التى تتبناها مصر نحو دول القوى العظمى، التى تؤثر على أمنها القومى، من منظور بعيد، وتُعد فى ذات الوقت امتدادًا له، وتشمل تلك الاستراتيجية الدوائر البعيدة للأمن القومى المصرى، وهى الدائرة الأمريكية، والدائرة الأوروبية (عدا روسيا)، والدائرة الروسية، ثم الدائرة الآسيوية، وأخيرًا دائرة جنوب غرب آسيا. وقد يتحدد ترتيب تلك الدوائر وفقًا لأهميتها بالنسبة لمصر، وسوف نتناول كلًّا منها بشىء من التفصيل.
تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى فى الأهمية بدوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، لعدة أسباب، من أهمها اعتماد مصر على التسليح الأمريكى من خلال المعونة العسكرية المُقررة باتفاقية السلام بكامب ديفيد، هذا بالطبع بالإضافة إلى الاعتبارات الخاصة بالقوة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية، ودعمها الحالى لمصر، خاصة بعد رحيل الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما عن مقاليد السلطة فى أمريكا وحرص الرؤساء التاليين له على إعادة التوازن فى العلاقات السياسية والعسكرية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، بعد سنوات من حدوث خلل فى ميزان تلك العلاقة الاستراتيجية، القائمة، تاريخيًّا، بسبب أوباما نحو مصر، والتى أظهر فيها الكثير من التعنت.
ولكن بعد تولى الرئيس الأمريكى السابق ترامب، بلغت العلاقات الثنائية قمتها، خاصة بعد دخول أمريكا إلى الشرق الأوسط للتعاون مع مصر فى حربها للقضاء على الإرهاب، وقطع أواصره فى المنطقة. ومن ناحية أخرى، من خلال اعتبارها أن مصر إحدى أهم دول الارتكاز فى المنطقة، وبعد نجاح مصر فى تحقيق وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل فى حربى غزة الرابعة والخامسة، ثم جهودها حاليًا فى حرب غزة، التى بدأت يوم 7 أكتوبر 2023م، ودورها فى عمليات التهدئة وتبادل الأسرى والرهائن الإسرائيليين والفلسطينيين.
ومما سبق نستطيع تفهم الأهمية الكبرى للولايات المتحدة فى دوائر الأمن القومى المصرى وحاجة مصر إلى الدعم الأمريكى، سياسيًّا وعسكريًّا، خاصة فى المحافل الدولية.
وفى المرتبة الثانية تأتى الدول الأوروبية فى دوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، التى
تكتسب أهميتها من الناحية السياسية لما يتمتع به الاتحاد الأوروبى من ثقل سياسى، تحتاجه مصر فى مواقفها الدولية، فضلًا عن اعتبارات الجوار بين مصر وعدد من دول الاتحاد الأوروبى، على شواطئ البحر المتوسط، مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص، التى تتشارك جميعها مع مصر فى دائرة الأمن القومى القريبة الخاصة بالبحر المتوسط، كما تتأثر مثل مصر بأى أحداث تدور فى منطقة شمال إفريقيا مثل ما حدث فى ليبيا، التى تُعد امتدادًا طبيعيًّا للأمن القومى المصرى لموقعها على الحدود الغربية لمصر.
تُضاف إلى ذلك الأهمية العسكرية لتلك الدول، إذ أصبحت دول الاتحاد الأوروبى تشارك مصر فى سياستها الجديدة فى تنويع مصادر السلاح، خاصة من الأسواق الفرنسية، والألمانية، والإيطالية.
تأتى العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الاتحاد الأوروبى كمحور ثالث لأهمية تلك الدائرة الأوروبية للأمن القومى المصرى، حيث تعمل مصر على زيادة معدلات التبادل التجارى بينها وبين دول الاتحاد الأوروبى، وزيادة تبادل الخبرات، ممثلة فى اتفاقات التصنيع المشترك.
وفيما يخص الاستراتيجية المصرية نحو روسيا، التى تُعد ثالثة دوائر الأمن القومى المصرى البعيدة، بديلًا للاتحاد السوفيتى، الذى اعتاد أن يحتل المركز الثانى فى ترتيب الدوائر، فيما مضى، من حيث الأهمية؛ فبالرغم من تراجع ترتيب الدائرة الروسية، فإن مصر أفردت لها محاور خاصة فى استراتيجية التعامل معها، بعيدة عن تلك التى حددتها سواء لأوروبا أو آسيا، بالرغم من موقع روسيا الجغرافى، وذلك لأن روسيا لا تزال إحدى أهم الدول التى تربطها بمصر علاقات قوية ومتينة على كافة الأصعدة، الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية.
فمن الناحية الاقتصادية، تمثل السياحة الوافدة من روسيا إليها الشريحة الأكثر من قطاع السياحة الوافدة إلى مصر، لذلك كان توقفها فى أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية ضربة قاصمة لقطاع السياحة بصفة خاصة، وللدخل القومى المصرى بصفة عامة، مازالت مصر تعانى تبعاتها حتى الآن، ونأمل أن يتغير الوضع فى المستقبل وأن تعود السياحة الروسية إلى ما كانت عليه.
كما أن التبادل التجارى مع روسيا يمثل أهمية كبيرة للدخل القومى المصرى، خاصة فى مجال المنتجات الزراعية، إذ تمثل الصادرات الزراعية من البرتقال والبطاطس المصريين إلى روسيا نسبة كبيرة من إجمالى صادرات مصر الزراعية. أضف إلى ذلك عقد المفاعل النووى بالضبعة، المُوقع بين الحكومتين المصرية والروسية، والذى يُعتبر صفقة كبيرة من منظور الاقتصاد الروسى، ونقلة نوعية لمصر، تدخل بإتمامه إلى عصر الطاقة النووية، كما يمثل قيام روسيا بإنشاء المنطقة الاستراتيجية الجديدة فى منطقة قناة السويس نقلة كبيرة فى التقارب المصرى الروسى.
أما من الناحية السياسية، فإن عودة روسيا، مرة أخرى، إلى المياه الدافئة فى البحر المتوسط قد عزز من دورها السياسى فى المنطقة، خاصة دورها فى المشكلة السورية، التى تُعتبر بالنسبة لمصر امتدادًا حيويًّا لأمنها القومى. ولذا تجد مصر وروسيا حريصتين على تقوية العلاقات السياسية بينهما، وهو ما يتجلى فى الزيارات المتبادلة بين رئيسيها، ولقاءاتهما الثنائية، التى كان آخرها لقاءهما على هامش «قمة دول البريكس»، الذى انعقد فى الصين، وحتى على المستويات الوزارية، خاصة السيادية منها، كتبادل الزيارات بين وزراء دفاع البلدين، ووزراء خارجيتها.
وأخيرًا، ومن الناحية العسكرية، فالسلاح الروسى يمثل نسبة غير ضئيلة فى الترسانة المصرية؛ سواء القديم منه، الذى لا يزال فى الخدمة، والذى تعتمد عليه العديد من أفرع ووحدات القوات المسلحة المصرية، وتحتاج عمليات صيانته إلى قطع غيار روسية الصنع، أو الحديث الذى تم التعاقد عليه فى السنوات الأخيرة، ضمن الاستراتيجية المصرية فى تنويع مصادر السلاح المصرى وتطوير المصانع الحربية.
لذلك فإن واحدًا من أهم مستهدفات الاستراتيجية المصرية فى المرحلة القادمة هو الاستمرار فى خلق حالة التوازن فى علاقاتها الخارجية بين كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وكذلك روسيا، التى لها شأن كبير فى السياسة المصرية الخارجية، وهو أمر ليس بالسهل، ولكن حكمة السياسة المصرية هى الضمان لاستمراره