سر تقدم السكسونيين
طفولتي في مدينتي الحبيبة بورسعيد، كانت هي المدرسة الحقيقية التي تعلمت فيها مبادئ الحياة. وكانت أمي هي المعلم، التي بفضلها اجتزت كل اختبارات الحياة. فالأم هي أول موجه للعقل البشري، والقادرة على تشكيله منذ أيامه الأولى. وهو ما تجلى لي عند اقترابي من نموذج الأم في صعيد مصر، اللائي لم يتسن لمعظمهن من التعليم شىء، ولكن بفضل طبيعة شخصيتها الحازمة، تكون هي المعلم للقيم والمبادئ والأخلاق، عن طريق ما تقصه على أبنائها من حكايات، منذ الطفولة، وهي من تغرس في نفوسهم العادات والتقاليد، الحميدة في مجملها، حتى وإن تخللها بعض الطبائع التي يرفضها المجتمع، مثل الثأر، إلا أنه يظل تراثا خاصا بتلك المنطقة.
أعود، مرة أخرى، إلى بورسعيد. وكنت في الثانية عشرة من عمري، وجئت أمي، يوماً، أخبرها برغبتي في الاشتراك في المعسكر الدولي للكشافة المقرر إقامته في الفلبين، أو ما كان يطلق عليه «الجامبوري العالمي»، إذ كنت رئيساً لفرقة الكشافة في مدرسة بورسعيد الثانوية، وكنت أرفع العلم في طابور الصباح، بينما يؤدي سعد أبو ريدة، رحمة الله عليه، التحية العسكرية. وهو ما كان مصدر فخر وعز لنا. أخبرت أمي برغبتي في الاشتراك، وأنا أعلم مسبقاً، أن الموضوع سيثير بعض القلق لديها، فالرحلة طويلة، 45 يوماً، عن طريق البحر، تستغرق رحلتا الذهاب والعودة 30 يوماً منها، بينما مدة المعسكر 15 يوماً أخرى. المشكلة الأكبر كانت في قيمة الاشتراك والتي تحددت بـ45 جنيهاً، وهو ما يوازي، آنذاك، مرتب 3 أشهر لموظف من حاملي الشهادات الجامعية!…
استمعت لي أمي، ونظرت إلي قبل أن تبشرني بموافقتها على المشاركة. طرت فرحاً من هول المفاجأة، ولكنها استطردت قائلة «موافقتي مشروطة. سأعطيك كتاباً لتقرأه، ثم تلخصه، وإن اجتزت ذلك الاختبار بنجاح، فستسافر حينئذ». واصطحبتني أمي، بالفعل، إلى المكتبة، واختارت لي كتاباً بعنوان «سر تقدم السكسونيين»، وطلبت مني تلخيصه فيما لا يزد على عشر صفحات. أمسكت بالكتاب في ذهول … وفتحت آخر صفحاته 450 صفحة. كيف لي أن ألخصها في عشر فقط، مع مراعاة تعليماتها بألا أغفل أيا من أفكاره، في مدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، وإلا فاتني الموعد الأخير للاشتراك في المعسكر؟.
لم يكن أمامي خيار سوى الاجتهاد، والمحاولة. فأنا أعلم يقيناً، أنه لا سبيل لإثنائها عن قرارها، وحيث كانت والدتي ناظرة المدرسة الوحيدة للبنات في مدينة بورسعيد، فقد أخبرت أحد مدرسي المدرسة بما كان مني ومنها، وطلبت منه الإشراف على ذلك الاختبار. أتذكر جيداً نظراته إلى الكتاب الذي اختارته، والذهول الذي أصابه كما أصابني من قبل، ثم صاح «يا أبلة الناظرة ملقتيش كتاب غير ده «. فضحكت قائلة «المرة الجاية أعطيه كتاب أرسين لوبين».
شرعت فوراً في قراءة الكتاب، الذي يحكي تاريخ الإنجليز منذ عصر البخار، إلى عصر المستعمرات في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وسر نجاحهم وتطورهم. فكان الكتاب، بالنسبة لطفل في عمري، طويلاً، وصعباً للغاية، ناهيك عن حجم المعلومات التي يحويها، والتي يجب أن ألخصها دونما أي إخلال بالمعنى، أو تطويل.
ونجحت في الاختبار، واعتمدت أمي نتيجة الاختبار. ووفت بوعدها لي وسافرت، بالفعل، إلى الفلبين، وعدت منها أكثر نضجاً، وأكثر اعتماداً على النفس.
ومرت الأيام، وتخرجت في الكلية الحربية في مصر، وبُعثت، بعدها بسنوات، للدراسة في كلية كمبرلي الملكية في إنجلترا، لمدة عام. تلك الدولة التي تعمقت في تاريخها، وسر تقدمها. وطلب منا أحد الأساتذة، خلال النصف الأول من العام الدراسي، تلخيص عدد من الكتب لكبار الكتاب، كان نصيبي منها كتاب هنري كيسنجر «كيف تصنع السياسة الدولية». يتألف الكتاب من أكثر من ثلاثمائة صفحة، ولم نكن قد تدربنا، من قبل، على الطرق العلمية المتبعة في التلخيص. فوجدتني أنظر إلى أستاذي، وكأنني أبحث في وجهه عن ملامح أمي. قرأت الكتاب بشغف، واستخلصت منه أهم الأفكار والدروس، ووضعتها في ملخص صغير، عرضته على أستاذي، وعلى باقي الطلبة، فحصلت على تقدير امتياز، لأصبح بذلك واحداً من خمسة طلبة، فقط، ممن حصلوا على هذا التقدير المرتفع.
استرجعت يومها ذكرى أمي، رحمها الله، وأفضالها في تكوين شخصيتي وإبراز قدراتي. فتعجبت من بعض أمهات هذا الزمان، اللاتي يتبارين لتسليح ابنائهن بأحدث أجهزة للألعاب الإلكترونية. أعلم أن الزمان تغير، وأن التكنولوجيا هي سمة العصر الحديث، ومواكباتها أصبحت ضرورة لا غنى عنها، إلا أن ذلك لا يتعارض مع أهمية الحفاظ على بعض من أساليب التربية التقليدية، التي من شأنها غرز المبادئ، وصقل القدرات لدى الأطفال.
مازال اختبار أمي، واحدة من أهم محطات حياتي، ففضلاً عن المعلومات الهائلة التي تعلمتها من ذلك الكتاب، والتي دفعتني لحب القراءة، إلا أنني أدين لهذا الاختبار بالفضل لما علمني من مبادئ أولية في الحياة … كان أهمها الاجتهاد والمثابرة لتحقيق الغاية. رحمة الله عليك يا أمي. يا من أدين لها بالفضل في كل لحظة من حياتي.