يوم مطير فى لندن
عندما سافرت إلى لندن فى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، لألتحق بكلية كمبرلى الملكية بإنجلترا، إحدى كبرى كليات العلوم العسكرية، والأمن القومى فى العالم… كانت تلك أول تجربة حقيقية لى خارج مصر، بعد رحلات الكشافة المدرسية إلى الفلبين وتونس.
هذه المرة الأمر مختلف… فها أنا الضابط الصغير، برتبة رائد، أمثل الجيش المصري، فى تلك الكلية العريقة، بعد انقطاع البعثات الدراسية إليها لأكثر من عشرين عاماً، نتيجة لتأميم قناة السويس، وتوقف مصر عن التعاون العسكرى مع بريطانيا، وهو ما اتخذ السادات قراراً بتغييره، معلناً سياسة الانفتاح العلمى العسكرى للدراسة فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
وقبل الانتظام فى الدراسة، كان لزاماً على المبتعثين الأجانب، الانضمام إلى دورة لتعلم اللغة الإنجليزية، لمدة ثلاثة أشهر، فى إحدى المدارس التابعة للجيش البريطاني، التى كان مقرها فى الريف الإنجليزى الرائع، الشهير بهدوئه، وطبيعته الخلابة، كانت المدرسة تُدرس جميع اللغات، منها العربية، والروسية، والكورية… وغيرها، وكان مخصصاً لنا دراسة الإنجليزية فقط، خاصة المصطلحات العسكرية الغربية.
توجهنا، أفراد البعثة من مختلف بقاع العالم، بالفعل، إلى المدرسة، وتعرفنا، فى يومنا الأول بها، على القواعد والتعليمات المُنظمة لها، واطلعنا على مواعيد المحاضرات، وقاعاتها، وتوقيتات دخول «ميس الضباط»، أو قاعة الطعام، ومواعيد الوجبات… فكان تقديم وجبة الإفطار، على سبيل المثال، يبدأ فى السادسة ويمتد حتى الثامنة صباحاً، لتبدأ المحاضرات، بعد الانتهاء منه مباشرة، فى تمام الثامنة والنصف من صباح كل يوم.
ولأننى كنت الضابط المصرى الوحيد فى البعثة، فقد كان الاحتفاء بى كبيراً، إذ كانت مصر قد حققت، لتوها، انتصارها العظيم فى حرب أكتوبر 73، فكانت بطولاتنا هى محور حديث معظم الجلسات التى تجمعنى بالضباط الإنجليز، وغيرهم من الدول الأخري، الذين كانوا ينصتون، باحترام وتقدير، لتفاصيل ذلك النصر المجيد. وأذكر أنه قد جمعنى لقاء خاص، طال لأكثر من ساعتين، مع الجنرال الإنجليزي، قائد تلك المدرسة، لم نتحدث خلاله سوى عن حرب أكتوبر 73، وما دار فيها، وما حققناه فيها من انتصار بخطط وسواعد مصرية… أذكر تعليقه جيداً عندما قال لي: «لم نكن واثقين فى قدرتكم على خوض الحرب، وليس فقط الانتصار فيها… ولكننى مثل جميع الإنجليز، سعدت بما حققتموه من نصر، خاصة أننا قد سئمنا غرور الإسرائيلين بعد حرب 67».
انتظمت الدراسة فى اليوم التالى مباشرة… ولم يقتصر التعليم على اللغة الإنجليزية، وقواعدها، فحسب، وإنما كان هناك الكثير من دروس الحياة، لمن يعى… كان أولها، بالنسبة لي، عندما دخلت إلى قاعة الطعام فى اليوم الأول، لتناول الإفطار، وكانت الساعة الثامنة إلا خمس دقائق تماماً، وطلبت وجبتي، بعدما استغرقت قرابة الخمس دقائق لأؤكد على مشرفة الطعام، وكانت بالمناسبة برتبة رقيب بالجيش الإنجليزي، بأننى لا أتناول لحم الخنزير … ثم جلست على طاولة الطعام فى انتظار تحضير الوجبة. فى هذه الأثناء، دخل إلى القاعة، الجنرال قائد المدرسة، وألقى تحية الصباح على الموجودين، متمنياً لهم يوماً جميلاً، ثم جلس على المقعد المقابل لى على طاولة الطعام، فحضر إليه النادل، برتبة رقيب أيضاً، وقبل أن يشرع القائد فى طلب الإفطار، بادره النادل قائلاً إنه لن يستطيع تقديم الإفطار له، إذ ان موعد تقديم الإفطار قد انتهى منذ خمس دقائق… فنظر قائد المدرسة إلى ساعة الحائط، قبل أن يعتذر للنادل عن هذا الخطأ، الناتج عن سوء فهم، نتيجة أنه وجد باب قاعة الطعام مازال مفتوحاً، وليس مغلقاً كما هو معمول به، بعد انقضاء المدة المقررة للإفطار. ثم همّ بالانصراف، بعدما قال مقولة مازلت أسمع صداها، وأعى معناها: «من الخطأ ألا تنظر إلى ساعة يدك». وبالرغم من انتمائى إلى المؤسسة العسكرية، إلا أننى تعجبت من الدقة والانضباط، والتواضع، والحزم… فكان ذلك درس أول … رقيب يقول للقائد إنه حضر بعد الموعد، والقائد يقر بخطئه، ويعتذر عنه.
مر النهار، وتوجهنا إلى قاعة الطعام، مرة أخري، لتناول الغداء، قبل الخروج إلى المزارع والحقول المجاورة، كما هو مقرر، لتعلم مصطلحات جديدة عن الأرض والطبيعة. كان اليوم ممطراً، فما إن فرغت من طعامي، حتى جلست أمام النافذة فى حجرتى لأتصفح الجرائد، أمام ذلك المنظر الطبيعى الخلاب… قبل أن أفيق على أصوات تتعالى فى الممرات، وتنادى على اسمى… هرولت إلى الخارج، فوجدت أحد مدرسينا يبحث عني، ونهرنى قائلاً أن الحافلة التى ستقلنا للخارج تنتظرنى أسفل المبنى منذ عشر دقائق … ثم سألني، متعجباً، عما إذا كنت قد اطلعت على برنامج اليوم والتعليمات الواردة به، الذى ينص على أن التحرك من المدرسة فى تمام الواحدة والنصف ظهراً. فأجبته بالإيجاب، ولكن لشدة المطر، تهيأ لى أننا لن نخرج إلى الحقول، فقال جملته الشهيرة Its raining every day in England, does it mean we dont work?، بمعنى أن السماء تمطر يومياً فى إنجلترا، هل يعنى ذلك ألا نعمل؟!
أسرعت لأغير ملابسى وأرتدى ملابس الميدان، ولحقت بزملائي، معتذراً بشدة عن التأخير غير المتعمد… فكان ذلك الدرس الثانى فى يومى الأول… الجدية والالتزام بالعمل مهما كانت طبيعته، وأياً كان مكانه، وتحت أى ظرف… هكذا تكتسب خبرات الحياة.