يوم سعيد … فى بورسعيد
زرت، فى الأسبوع الماضي، مدينتى الحبيبة، ومسقط رأسى … بورسعيد. لم أنقطع يوماً عن زيارتها، ومع ذلك أجدنى أتحين الفرص، ضمن مشاغل الحياة الكثيرة، لأزورها أكثر وأكثر. كانت تلك الزيارة مخصصة للمشاركة فى المؤتمر الشعبى لأبناء بورسعيد، الذى نظمه ممثلوها فى البرلمان المصري، لتعريف أبناء المحافظة بالأوضاع فى مصر، سياسياً واقتصادياً، ولإطلاعهم على الرؤية المستقبلية للبلاد عامة، ولبورسعيد بصفة خاصة.
ومع الآلاف من أبناء بورسعيد، جلسنا نتحدث طويلاً … ولم يخل حديثنا، بالطبع، من ذكريات أيام عظيمة، عاصرها البعض، وسمع بها البعض الآخر … فاستعدنا بطولة وبسالة شعب بورسعيد فى مواجهة العدوان الثلاثى عام 56 … وفخرنا بعظمة هذا الشعب الذى قبِل التهجير، عقب هزيمة 67، دونما اعتراض أو احتجاج، لما استشعر فيه من مصلحة الوطن… وتحدثنا عن جلدهم وصبرهم على العيش غرباء فى مدن الدلتا أو فى عشش رأس البر، حتى آتانا اليقين بنصر أكتوبر 73… تحدثنا عن تحول مدينة بورسعيد إلى مدينة حرة، تلك التجربة التى لم تعش طويلاً، بل يرى البعض أنها ولدت ميتة، إذ انتهى بها الأمر أن صارت منطقة حرة استهلاكية.
أما اليوم، فقد علت وجوه أبناء محافظة بورسعيد ابتسامة أمل، فى غدٍ مشرق، ومستقبل واعد لهم، ولأبنائهم … لمست ابتساماتهم، واستشعرتها، عند حديثهم عن تطلعهم إلى حياة جديدة، فى ظل المشروعات الاستثمارية فى منطقة شرق التفريعة، واكتشافات الغاز والبترول أمام سواحل المحافظة، فى البحر المتوسط، التى رفعت نسبة إشغال الأجانب لفنادق بورسعيد إلى كامل طاقتها.
استمر لقاؤنا بأبناء المحافظة، لساعات طويلة، دعانى بعدها صديقى العزيز، اللواء عادل الغضبان، محافظ بورسعيد، إلى فنجان من الشاى فى مكتبه، تيقنت بعد الانتهاء منه، أن بورسعيد ينتظرها مستقبل واعد، وأنها تتقدم بخطى واسعة نحو حل معظم مشكلاتها، وعلى رأسها مشكلتا الإسكان، والبطالة … فالرجل يتبع منهجاً علمياً، فى إدارته للمحافظة ومشكلاتها، إذ وضع خطة تنمية شاملة للمحافظة، ترتكز على عدة محاور، وتهدف فى نهايتها إلى النهوض بالمحافظة، وتنميتها. وقد أشرت من قبل، فى مناسبات مختلفة، أن جميع مؤسسات الدولة، فى حاجة إلى وضع رؤى وخطط مستقبلية، ذات أسس علمية، يمكن قياس نجاحاتها، لضمان إحداث التنمية المرجوة. ثم جاءت أحلى لحظات حياتى بالمحافظة … عندما قمت بزيارة «مدرسة نبوية الجابرى الإعدادية للبنات» … المدرسة التى تحمل اسم والدتي، رحمة الله عليها، تكريماً لها كرائدة من رواد التعليم فى المحافظة. فقد كانت والدتى أول ناظرة لمدرسة القناة الإعدادية للبنات فى بورسعيد، فى الخمسينيات من القرن الماضي، واستمرت فى منصبها لنحو عشرين عاماً، تخرج، خلالهما، من تحت يديها معظم أمهات بورسعيد فى يومنا هذا. كما كانت، فى ذلك الوقت، رئيسة جمعية المرشدات ببورسعيد، ورئيسة جمعية الهلال الأحمر، فضلاً عن رئاستها لجمعية النشاط النسائى ببورسعيد، وجمعية تنمية المواهب لذوى الاحتياجات الخاصة فى المحافظة، وكان لها بصمة واضحة فى العديد من الأنشطة فى المحافظة… شغلت، والدتي، كل تلك المناصب، الرسمية والتطوعية، فى زمن عز فيه مشاركة النساء فى الحياة العامة.
وصلت إلى المدرسة، مغالباً دموعى وأنا أرى اسمها مرفوعاً فوق المدرسة، وكلى فخر أننى ابن هذه السيدة العظيمة، التى تركت وراءها إرثاً كبيراً لبنات وأبناء بورسعيد، مازالت المحافظة تجنى ثماره حتى يومنا هذا. وما أن دخلت إلى المدرسة، حتى ازداد فخري، وانبهارى … فاسمها لا يضىء مدرسة، فحسب، وإنما هى مدرسة جميلة، غاية فى النظام، تبدو الأنشطة فيها من جميع جوانبها… تماماً كما كانت تحب أن تراها.
رأيت فرقة موسيقية، من بنات المدرسة، تعزف السلام الجمهوري، مستخدمة العديد من الآلات الموسيقية المتوافرة بالمدرسة، كالأورج والجيتار وغيرهما، تبع ذلك غناؤهم، وعزفهم لعدد من الأغانى الوطنية، التى ألفتها، ولحنتها مدرسة الموسيقى بالمدرسة، وقادتهم خلالها بفخر واعتزاز. استمعت إلى كلمات الطالبات، أثناء الطابور، يعلوها الأمل، وكلهن يرتدين وشاحاً يحمل اسم «نبوية الجابري» ثم أطلقوا صيحات الكشافة، التى أعادت إلى ذكريات الطفولة الجميلة. تجولت بعدها فى المدرسة، فرأيت جدرانها قد امتلأت بمجلات الحائط، والأعمال الفنية للطالبات، وشعارات التوعية، التى خطوها بأنفسهم على الأسوار، تحت إشراف مدرسيهم. أما أعضاء هيئة التدريس، تحت إدارة السيدة الفاضلة حنان محمد أحمد، ناظرة المدرسة، فرأيتهم أسرة متحابة، يعملون بإخلاص وتفان … ويؤمنون بشدة بأنهم يؤدون رسالة سامية، سيكون لمخرجاتها عظيم الأثر فى النهضة بالمحافظة، وبالوطن أجمع.
اصطحبني، بعد هذه الزيارة الغالية، الدكتور نبوى باهي، وكيل وزارة التعليم فى بورسعيد، والسيد علاء الدسوقي، مدير إدارة بورفؤاد التعليمية، فى جولة لزيارة بعض المدارس المحيطة بنا، فرأيت ذات الانضباط، والرقى يسودان الموقف، وليس فقط فى المدرسة التى تحمل اسم والدتى … فأدركت أن ما أراه حولى هو خير وسيلة للتصدى للتطرف والإرهاب … وتمنيت فى داخلي، أن تعمم تجربة الارتقاء بالعملية التعليمية فى جميع محافظات مصر، كما بدأتها فى مدارس الأقصر، خلال سبع سنوات من خدمتى فيها كمحافظ.
حرصت أن أنهى زيارتى لمدينتى الحبيبة، فى مكتب اللواء عادل الغضبان، لأعبر له عن سعادتي، ليس فقط بالمدرسة التى تحمل اسم والدتي، رحمها الله، وإنما بكل ما رأيت فى المحافظة من ملامح النجاح، خاصة اهتمامه بالتعليم، كأحد جناحى التنمية البشرية، متمنياً أن يمتد النجاح إلى الجناح الآخر وهو الصحة… ورددت كلمات أهل بورسعيد … يجعلك عمار يا بورسعيد!