طائرات ومطاعم!
بالرغم من كثرة سفرياتي، التى جبت فيها معظم أرجاء العالم، فإننى أعترف بكرهى للسفر بالطائرات. ومثلما قسّم، الأديب الإيطالي، ألبرتو مورافيا، حياته، فى كتابه الشهير «أربع نساء فى حياتي»، إلى أربع مراحل مختلفة، ربطها بالسيدة الأولى فى حياته وهى والدته، والثانية معلمته فى المدرسة، والثالثة حبيبته التى لم يتزوجها، والرابعة زوجته، أجدنى أقتبس مراحل الحياة الأربع، ولكننى أؤرخ لها بأربع طائرات فى حياتي!
– الأولى، كانت الطائرة الروسية «أنتونوف»، وهى أول طائرة ركبتها فى حياتي، انتقالاً بين صنعاء والقاهرة، فى أيام الإجازة، عندما كنت ضابطاً محارباً فى اليمن. كانت عبارة عن طائرة نقل حربية روسية، تقطع المسافة بين صنعاء والقاهرة فى خمس ساعات، عليك خلالهم أن ترتدى قناع الأوكسجين، وألا تغمض لك عيناً، وإلا انقطعت أنفاسك.
– مكثت فى اليمن ثلاث سنوات، تطورت خلالها الرحلة لتصبح، على طائرة مدنية، من طراز «كوميت»، تابعة لشركة مصر للطيران، تخلصنا خلالها من قناع الأوكسجين، ولم نتخلص من طول مدة الرحلة والتى تستغرق فى العادة نحو ساعتين.
– أما الطائرة الثالثة فى حياتى فهى الطائرة «س-130»، وهى طائرة نقل عسكرية، وقد كنت استخدمها فى الانتقال إلى القاهرة من المنطقة الغربية، التى كنت أحد قادتها. وبالرغم من أنها أمريكية الصنع، هذه المرة، فإنها مازالت طائرة نقل عسكرية، تضيف مشاق كثيرة للرحلة، حتى وإن كانت لمدة ساعة ونصف الساعة فقط.
– أما الطائرة الرابعة، فكانت تلك الرحلة الأسبوعية، بين القاهرة والأقصر، لمدة سبع سنوات متواصلة، عندما كنت محافظاً للأقصر. وبالرغم من أنها طائرة مدنية، تابعة لمصر للطيران، فإن تكرارها كل أسبوع، لمرة واحدة على الأقل، أفقدها متعة السفر.
الحقيقة أننى عشقت السفر بالقطارات، منذ أن كان لمصر أجمل قطارات، وأفخم خدمة سكة حديد فى العالم. يكفى أن تشاهد فيلم «أنت حبيبي»، للفنانين الراحلين شادية وفريد الأطرش وهند رستم، وغيرهم، وترى فخامة عربة الطعام فى القطار بين القاهرة وأسوان، وأناقة عربات النوم، لتتعرف على مستوى الرفاهية والرقى التى كنا نعيشها أيام الزمن الجميل. وبناء على تلك الذكريات، فقد عشقت السفر داخل أوروبا بالقطار، فهو متعة لا يضاهى متعتها، سوى ذكريات الماضي.
كنت أستغل أى زيارة صيفية إلى أوروبا، لأستقل القطار من باريس، إلى باقى مدن أوروبا. أحببت باريس أكثر من أى مدينة أخرى فى أوروبا، حتى أكثر من لندن، التى عشت بها عامين متواصلين فى أثناء دراستى فى كلية كمبرلى الملكية. شاركنى فى حب باريس، صديقى اللواء محسن السلاوي، بالرغم من إقامته فى لندن لمدة أربع سنوات، كملحق عسكرى لمصر بها. فعلى عكس لندن، مدينة الضباب، التى يغلف الشتاء القارس شوارعها، ويندر أن تجد أى محلات مفتوحة بعد الخامسة مساء، إلا من بعض الحانات الصغيرة، ذات الأضواء الخافتة، والموسيقى الصاخبة، تجد باريس، عاصمة النور، تعج بالحياة، مهما تكن درجة برودة الجو. فيكفى أن تذهب إلى الحى اللاتيني، حيث يعيش معظم طلبة باريس، لتتناول عشاءك بأقل الأسعار، وسط فنانى ورسامى باريس، الذين تركوا «حى مونمارت» الشهير، وهو مقرهم التقليدى فى الصباح، لاستكمال ليلتهم فى الحى اللاتيني.
ونظراً، لتجمع العديد من أبناء مختلف جنسيات العالم فى فرنسا، سواء للدراسة أو العمل، أو حتى ممن استوطنوها، واندمجوا فيها، فإنك تجد فيها، دائماً، ما يمثل أصول أولئك الوافدين إليها، ويظل الطعام، أحد أهم صور تبادل الحضارات. لذلك ستجد فى فرنسا كل أنواع المطاعم فى العالم، التى تقدم وجباتها بجودة عالية، فهناك المطاعم المغربية التى تقدم أشهر أطباقها، كشوربة الحريرة، والمطاعم التونسية، التى تقدم أطباق الكسكسى الشهيرة بأنواعها المختلفة، والمطاعم السورية واللبنانية، التى تقدم الأكلات الشامية. فضلاً عن مطاعم الفول والطعمية التى تجذبك رائحتها عن بعد، وتشدك إليها لتتذوقها. وبالرغم من أن الطعمية يقدمها المصريون والسوريون، كل بطريقته الخاصة، يظل للطعمية المصرية، من الأصول الإسكندرانية، مذاق خاص، مما أكسب أحد المطاعم التى تقدمها هناك، وصاحبها المصرى اليهودي، شهرة كبيرة، لتصبح أشهر وجبة تكفى بطون الشباب الجائعة. وتظل المطاعم الإيطالية، بأطباقها المميزة من البيتزا والباستا «المكرونة»، بأشكالها وأنواعها المختلفة، هى الأكثر شبابية لطلاب الحى اللاتيني، لرخص سعرها وسرعة تناولها. فضلاً عن المطاعم الصينية، واليابانية، وأطباق جنوب شرق آسيا. وفى حوارى الحى اللاتيني، ترى الكثير من مطاعم الحلويات، من مختلف بقاع العالم، أهمها الحلويات الشرقية، كالبقلاوة وأصابع زينب، التى يتنازع الأتراك والشوام على أصولها، مثلما يتنازع الأتراك مع اليونانيين على أصول طبق المسقعة الشهير، متناسين أن المطبخ المصرى هو أساس هذه الأكلات الشعبية الشهيرة.
فإن اضطرتنى الظروف أن أغيب عن مصر، خلال شهر رمضان المبارك، كانت فرنسا هى البلد الأوروبى الوحيد الذى أفضل أن أقضى الشهر به، إذ لن تبقى وحيداً فى ساعة الإفطار، بل ستجد كل العرب المقيمين هناك، يشاركونك تلك اللحظات، كما لن تجدهم فى أى مكان آخر فى العالم، فى مطاعم تعج بكل أنواع المأكولات الشرقية، التى تناسب أذواق عموم المصريين … رمضان كريم.