45 دقيقة مع أولبرايت
العالم يتطور سريعاً، و يتغير باستمرار، وعلينا أن نكون على أهبة الاستعداد، لمواكبة تلك التغيرات والتطورات، مع الحفاظ على الهوية المصرية، بسماتها وتقاليدها وأعرافها. فى الماضى كانت قيادات وحكومات الدول تعتمد على وجود مستشارين، فى مختلف التخصصات، للرد على أى استفسارات، وتقديم المقترحات والحلول بشأن أى مشكلات. إلا أنه خلال العقود الخمسة الماضية، ظهرت مفاهيم جديدة، وتبلورت فى شكل جديد، وهو ما يعرف باسم مراكز الدراسات الاستراتيجية، التى تعتمد على جمع المعلومات والمواد العلمية، باستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية، ثم تحليلها ورصد اتجاهاتها بدقة، للخروج منها بالحلول، والسيناريوهات المحتملة.
ومع هذا التطور، اتضح انحياز بعض هذه المراكز لآراء فكرية معينة، أو إلى اتجاهات مدفوعة الأجر، مما أفقدها مصداقيتها. فى حين حافظ البعض الآخر على ثقل وزنه فى الأوساط العالمية، ولعل أهمها The International Institute for Strategic Studies (IISS)، فى لندن، والذى يعد أهم المراكز، التى يعتمد عليها معظم المفكرين الاستراتيجيين، والباحثين فى مجالات الأمن القومى حول العالم. ومنذ سنوات ظهر إلى السطح شكل متطور من هذه المراكز، وهو ما يطلق عليه مصطلح Think Tanks، وهو عبارة عن مجموعة من الخبراء العاملين على تطوير الأفكار حول موضوع معين وتقديم اقتراحات عملية بشأنه. وعادة ما تتبع هذه المجموعات رئاسات الدول وحكوماتها، ومنها من يتبع وزارات سيادية مثل الدفاع والخارجية والاستخبارات، ولا يقتصر عمل تلك المجموعات على الدول فقط، وإنما منها من يتبع الكيانات الاقتصادية الخاصة.
لقد قمت فى عام 2014، بزيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تم خلالها الإعداد للقاء عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي، وتمت اللقاءات بالفعل مع نحو عشرة، كان منهم على سبيل المثال من النواب الجمهوريين دانكن هانتر، جو ويلسون، وكاى جرانجر، ومن النواب الديمقراطيين دوتش روبرسبرجر. كما طلبت عقد لقاء مع إحدى مجموعات Think Tanks فى واشنطن، سواء تلك التابعة للمخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، أو التابعة لوزارة الخارجية، أو التابعة لوزارة الدفاع (البنتاجون)، أو مجموعة البيت الأبيض الخاصة بالرئيس أوباما. وكانت المفاجأة فى تحديد موعد مع مجموعة الرئيس الأمريكى أوباما، لمدة ساعة ونصف الساعة، يخصص نصف الوقت لزيارة المبنى والتعرف على مكوناته، والنصف الآخر للقاء المجموعة برئاسة السيدة مادلين أولبرايت، وزير الخارجية فى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون.
وبدأت زيارتى للمبنى المكون من خمسة طوابق، فى أهم شوارع العاصمة الأمريكية واشنطن، خصص أربعة منها لمتابعة كل ما يجرى فى مناطق الصراع فى العالم، وخصص الطابق الأول للإدارة وقاعات الاجتماعات. قضيت 30 دقيقة، من الجزء الأول من الزيارة، فى الطابق المعنى بدراسة أحوال الشرق الأوسط، المكون من ثلاثة أقسام؛ الأول لجمع كل الأخبار المقروءة والمسموعة والمرئية، عن هذه المنطقة من العالم، وعلى شاشات عملاقة، يتم مشاهدة جميع ما يصدر من إعلام الشرق الاوسط، والبرامج المختلفة، والإذاعات، والصحف، حتى التعليقات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعى الشهيرة. فور جمع هذه البيانات فى القسم الأول، يتم تسليمها إلى القسم الثاني، المعنى بتصنيفها، وفقاً لمحتواها، سواء سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو عسكرية، ولأول مرة يظهر الإرهاب كجزء منفصل عن القسم العسكري. أما القسم الثالث، والأخير، فمهمته تحليل تلك البيانات المجمعة، ورصد اتجاهاتها. وفى حين اطلعت على بيانات عدد من دول منطقة الشرق الأوسط، فلم يُسمح لي، بالطبع، بالاطلاع على القسم الخاص بإسرائيل، وفقاً للتعليمات الأبدية، فى كل أجهزة الإدارة الأمريكية، ألا يطلع مسئول مصرى على ما يخص الشأن الإسرائيلي.
وحان موعد لقاء السيدة مادلين أولبرايت، الذى بدأ بتقديم أعضاء المجموعة وعددهم 17 فرداً، من مختلف المجالات، منهم الخبراء العسكريون، وخبراء الأمن القومي، والسياسيون وخبراء القانون، ولم أندهش لوجود دكتور علم النفس بينهم. بعد التقديم أضافت السيدة أولبرايت بأنها ستتحدث لمدة 15 دقيقة، وسأتحدث أنا لمدة 15 دقيقة أخري، وتخصص 15 دقيقة الأخيرة للنقاش مع باقى الأعضاء. وبدأت حديثها بأن الأسابيع المنصرمة كانت من أهم فترات المجموعة، إذ كلفهم الرئيس أوباما بأهم موضوعين يخصان السياسة الخارجية الأمريكية فى الفترة اللاحقة، واللذين ستتخذ الولايات المتحدة عدداً من القرارات المصيرية بشأنهما. الموضوع الأول ما يحدث فى البلقان من روسيا تجاه شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، أما الثانى فكان سؤالاً مباشراً من الرئيس أوباما لتوصيف ما حدث فى مصر تحديداً، «هل كان انقلاباً عسكرياً، قام به الرئيس السيسى لإزاحة الإخوان من السلطة؟ أم كانت ثورة شعبية، أيدها وساندها الجيش؟» مضيفة بأن اعتبار ما حدث فى مصر انقلاباً عسكرياً، سيكون له تبعات خطيرة طبقاً للدستور الأمريكي.
واستطردت قائلة، بأنها اطلعت، أولاً، على الورقة البحثية التى قدمها الرئيس السيسي، عندما كان طالباً، فى الولايات المتحدة، فوجدتها دراسة عن الديمقراطية فى دول العالم الثالث. ثم أضافت أنها تابعت أول قرارات الرئيس السيسي، بعد توليه الحكم، برفع الدعم عن المحروقات، وهو القرار الذى تأخر لأكثر من 40 عاماً، خوفا من المظاهرات أو الاعتراضات الجماهيرية، مما أكد لها أنه Reformer، أى إصلاحي، وكررت الكلمة أكثر من مرة، فلو كان قادماً على رأس أنقلاب عسكري، لفعل ما يفعله الانقلابيون بمحاولة استمالة الشعب، بقرارات شعبوية. والأهم من ذلك أن الشعب وافقه على قراراته، رغم صعوبتها، مما أكد لها، وللمجموعة، أن ما حدث فى مصر ثورة شعبية انحاز لها الجيش، وهو ما رفعته، لاحقاً، فى تقريرها النهائى للرئيس أوباما.
عندما حان دورى فى الكلام، كنت قد أيقنت بأن هذه المجموعة على علم تام بتفاصيل ما حدث، فأضفت كلمة واحدة، مفاداها أنه حتى فى أعتى الديمقراطيات، يتودد الرئيس إلى الشعب، خلال فترة رئاسته الأولي، بقرارات شعبية، تضمن إعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة، ويتخذ القرارات الصعبة قبيل رحيله عن الحكم، أما الرئيس السيسى فيهدف إلى الإصلاح، منذ اليوم الأول، غير آبه بشعبيته، لإيمانه بأن قراراته تصب فى صالح البلاد، حتى وإن لم يشعر العامة بأهميتها فى المدى القصير.
تخطت المناقشة الوقت المقرر لها، ولكن خرجت منها وأنا على يقين بأن هذه المجموعة على علم بكل ما يحدث فى مصر، وأنها وافقت بالإجماع على أن ما حدث فى مصر ثورة شعبية.