الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بعد تولي ترامب
هناك مقولة تدعي ثبات الاستراتيجية الأمريكية تجاه مختلف مناطق الصراع. وبالرغم من صحة هذه المقولة، إلا أنها تحتمل بعض التعديل؛ فالاستراتيجية الأمريكية يتم وضعها في صورة خطة خمسية، بما يؤيد مقولة ثباتها … إلا أن مراجعتها الدورية، تؤيد مرونتها.
يتم تصميم الاستراتيجيات الأمريكية لتغطي خمس سنوات، وفقاً للمتغيرات العالمية، ويتم العمل بها، واتخاذ القرارات في إطارها العام. وفي حال رأي الرئيس الأمريكي، باعتباره رأس السلطة التنفيذية، ضرورة إجراء تعديل ما في تلك الاستراتيجية، فليس له سلطة مطلقة للتعديل، وإنما يتعين عليه عرض مقترحه علي لجان الكونجرس المختصة، للبت فيه.
ولنتخذ ما حدث مع روسيا في صراعها مع شبه جزيرة القرم، مثالاً، إذ عرض الرئيس الأمريكي مقترحه علي لجنة الدفاع والأمن القومي بالكونجرس، والتي حددت لجان استماع بحضور وزير الخارجية الأمريكي، ورئيس أركان الجيش الأمريكي ممثلاً عن البنتاجون، ورئيس الوكالة المركزية للاستخبارات (»IA)، فضلاً عن عدد من الخبراء، مثل مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، والمسئولة عن أهم مجموعات الفكر والرأي (Think Tanks) في عهد الرئيس أوباما، وذلك لدراسة مطالب البيت الأبيض لتعديل استراتيجية التعامل مع روسيا. ولم يتم التعديل في الاستراتيجية، إلا بعد التصويت عليه وموافقة أعضاء الكونجرس. تلك هي الصورة العامة للاستراتيجية الأمريكية، تجاه مناطق الاهتمام في العالم، أو ما يطلق عليها (Level of Interest).
وبدراسة الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وبالرغم مما يطرأ عليها من تعديلات، ناتجة عن المتغيرات في المنطقة، إلا أنها تتمتع بعدد من الثوابت الأزلية، منها:
• أن الولايات المتحدة تعمل علي تأمين استمرار تدفق النفط العربي إلي باقي دول العالم، خاصة أوروبا، واليابان.
• ضمان استقرار المنطقة النفطية، وعدم خلق نزاعات من شأنها التأثير سلباً علي تدفق الطاقة إلي الغرب.
• ضمان استقرار وأمن إسرائيل، كحليف رئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، وضمان استمرار تفوقها العسكري علي الدول العربية.
• ارتكاز السياسة الأمريكية، في منطقة الشرق الأوسط، علي عدد من القواعد العسكرية الأمريكية، القابلة للزيادة، وفقاً للأجندة الأمريكية، والتي من شأنها تغطية جميع الاتجاهات العسكرية في المنطقة.
• ضمان تواجد حجم عسكري مناسب، في المنطقة، يسمح بالتدخل السريع، وفقاً للمواقف الطارئة، علي أن يكون للولايات المتحدة القدرة علي دعم هذا التواجد بعناصر إضافية، تمكنها من السيطرة العسكرية علي الموقف في أي من مناطق الاضطرابات في الشرق الأوسط.
• ارتكاز السياسة الأمريكية في المنطقة علي عدد محدد من الدول، يتراوح بين 4 إلي 5 دول، تعتمد عليهم في تنفيذ سياستها في المنطقة، علي أن تكون إسرائيل إحدي دول الارتكاز.
• التحكم في دول المنطقة عن طريق اعتمادهم علي التسليح الأمريكي، في حين تعمل الصناعات الحربية الأمريكية علي تطوير منتجاتها بصورة دورية، بما يضمن استمرار استنزاف موارد هذه الدول في شراء الأسلحة الجديدة.
• ضمان توازن العلاقات السياسية مع دول النفط في المنطقة، مع العمل علي وجود تهديد مستمر لها، لضمان استمرار اعتمادها علي الولايات المتحدة الأمريكية في توفير الحماية.
• عدم السماح بالتغلغل الأجنبي للسيطرة علي دول المنطقة، خاصة من روسيا والصين.
• ضمان استقرار الميزان العسكري في المنطقة، بعدم السماح بوجود قوات عسكرية متفوقة فيها.
• متابعة النشاط العسكري لدول المنطقة، وعدم السماح بظهور قوة نووية، غير إسرائيل، وتحديد عدد الدول التي يحق لها امتلاك السلاح الكيماوي (حددت الاستراتيجية الأمريكية في السابق عدم الموافقة علي امتلاك ليبيا للسلاح الكيماوي، بسبب سياسات الرئيس القذافي » غير المتزنة» من وجهة النظر الأمريكية. كما منعت السودان، حالياً، من امتلاك ذلك السلاح، بعدما تم تصنيفها كدولة راعية للإرهاب، خشية انتقال السلاح الكيماوي إلي أيدي المنظمات الإرهابية).
تلك هي الثوابت الأمريكية، والإطار العام، لاستراتيجيتها نحو الشرق الأوسط، والتي لم تتغير بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلي السلطة، وإن كان قد طرأ بعد التعديلات علي أجزاء بسيطة في سياساتها، مثل تعديل دول الارتكاز. حيث كان الرئيس السابق، أوباما، يعتمد علي كل من تركيا وقطر، بجانب إسرائيل، في ارتكازه في المنطقة، مما أتاح لدولة صغيرة، بحجم قطر، لأن يصبح لها مكانة في المنطقة. وهو ما قام الرئيس ترامب بتغييره، فاستبدل قطر وتركيا، بمصر والسعودية، تقديراً، ووعياً، منه لمكانتهما في المنطقة. الأمر الذي دفع قطر للسعي جاهدة لاستمالة ترامب، مرة أخري، عن طريق توقيع عقود لصفقات جديدة بمليارات الدولارات، إلا أن ذلك لم يغير من سياسته بضرورة استبدالها بالسعودية.
أما فيما يخص تركيا، وبعد محاولة الانقلاب العسكري الأخير، في 2016، وما أعقبها من تطرف أردوغان في سياساته القمعية، ضد كل من ادعي أنهم وراء محاولة الانقلاب، بما في ذلك القضاة والمدرسون، فقد رأي ترامب، أن تركيا لم يعد لها دور حيوي في المنطقة، مقارنة بدور مصر التاريخي، وما لها من وضع جيوستراتيجي، ومكانة معنوية وقتالية عالية. وهو ما أيده كل من البنتاجون والاستخبارات الأمريكية، من ضرورة الارتكاز علي مصر، بدلاً من تركيا، كدولة محورية، لثقلها السياسي والعسكري.
وبالرغم من تحفظ البنتاجون علي رفض مصر، السابق، للطلب الأمريكي بإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في منطقة »رأس بناس» علي البحر الأحمر، والتي كانت الإدارة الأمريكية تتوقع لها أن تكون أهم قواعدها العسكرية في المنطقة، إلا أن البنتاجون رجح كفة مصر علي تركيا، التي تم، بالفعل، إقامة قاعدة إنجرليك الأمريكية العسكرية علي أراضيها، لتكون مركز التنصت الألكتروني الأمريكي في الشمال، الذي يتجسس علي جميع المكالمات والرادارات والتحركات الجوية الروسية في المنطقة. فقد أدرك البنتاجون، والإدارات الأمريكية المتعاقبة، أن مصر، لن تسمح، أبداً، بوجود قواعد عسكرية أجنبية علي أراضيها، مهما قدمت لها تلك الدول الأجنبية من إغراءات، إذ يتنافي ذلك مع سياسات مصر وثوابتها.
وارتباطاً بالبند الأخير، من ثوابت الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، فقد وجه الرئيس ترامب مجموعة التخطيط الاستراتيجي في إدارته، لبحث المشكلة الإيرانية كحالة منفصلة، في ظل الاتفاق النووي الذي وقعته في 2015، مع القوي الست الكبري (أمريكا، والصين، وروسيا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا)، والذي يجري بموجبه تقليص برنامج إيران النووي، في مقابل تخفيف العقوبات المفروضة عليها، وكانت أهم بنود هذا الاتفاق، الذي قادته أمريكا، في ظل رئاسة أوباما:
• تقييد البرنامج النووي الإيراني، علي المدي الطويل، مع وضع حد لتخصيب اليورانيوم، بما لا يتجاوز 3.67%.
• تحويل مفاعل فوردو، وهو مركز تخصيب اليورانيوم، إلي مركز أبحاث..
• خفض عدد أجهزة الطرد المركزي، بمقدار الثلثين، لتصبح 5060 جهازاً فقط.
• السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالدخول لكل المواقع الإيرانية المشتبه بها، بما فيها المواقع العسكرية، بالتنسيق مع الحكومة الإيرانية.
• تمتنع إيران عن بناء مفاعلات تعمل بالماء الثقيل، لمدة 15 عاماً، مع الالتزام بعدم نقل المعدات من منشأة نووية إلي أخري..•حظر استيراد أجزاء يمكن استخدامها في برنامج إيران للصواريخ الباليستية لمدة 8 سنوات، فضلاً عن حظر استيراد الأسلحة لمدة 5 سنوات.
• يسمح الاتفاق بإعادة فرض العقوبات، خلال 65 يوماً من توقيعه، إذا لم تلتزم إيران ببنوده.
وفي المقابل يتم رفع العقوبات عن إيران، تدريجياً، تمهيداً لرفعها بالكامل بمجرد التزام إيران بجميع تعهداتها. كما سمح لها الاتفاق من معاودة تصدير النفط، بكامل طاقتها، فور بدء تنفيذ الاتفاق. وقد أثار هذا الاتفاق، غضب إسرائيل، ودول الخليج، باعتباره اتفاقاً أعرج، أحدّث خللاً في ميزان القوي في المنطقة، ومثّل تهديداً لأمن دول الخليج.
والآن أصبح علي الرئيس الأمريكي، إعادة تقييم موقف إدارته نحو هذا الاتفاق، والذي أعلن رفضه له، أثناء حملته الانتخابية، في ظل وجود أصوات في إدارته، تطالبه بعدم الانسحاب منه، لما يمثله من استمرار للتهديد الإيراني لدول الخليج، وهو ما يتسق مع الثوابت الأمريكية، في ضمان استمرار اعتماد هذه الدول علي أمريكا في توفير الحماية لها، وضمان استمرار شراء الأسلحة الأمريكية.
وفي ظل محاولة تحقيق التوازن بين الحد من النفوذ الإيراني، مع استمرار تدفق البترول العربي إلي دول الغرب واليابان، الذي يتم حالياً من خلال مضيق هرمز، الذي تسيطرعليه إيران، فقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تنفيذ خطتها القائمة علي مد خط أنابيب بترول عبر الصحراء السعودية، وصولاً إلي سلطنة عمان، ومن موانئها يتم نقله علي سفن، إلي أوروبا والشرق الأقصي من خلال باب المندب وقناة السويس، بما يقطع الطريق أمام إيران للتدخل في سير صادرات النفط من الخليج العربي.
ولتأمين تدفق البترول العربي وفقاً لتلك الخطة، سيتم إنشاء قاعدة أمريكية جديدة في سلطنة عمان، يطلق عليه اسم »قاعدة الدقم»، لتكون الأكبر في الشرق الأوسط. وباكتمال تلك الخطة الأمريكية، ستنتهي الأهمية الاستراتيجية لمضيق هرمز، وستقتصر أهميته علي نقل البضائع من وإلي دول الخليج العربي.
كما تركز الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، علي ضرورة التوصل إلي حل للقضية الفلسطينية، ويأمل الرئيس ترامب في تحقيق معجزة التوصل إلي اتفاق نهائي في إطار حل الدولتين، عن طريق رعايته للمباحثات بين الطرفين، لعرض الرؤي، حتي التوصل إلي اتفاق شامل.. ويبقي السؤال … هل ينجح الرئيس الأمريكي ترامب، وإدارته، في تنفيذ هذه الاستراتيجية في المنطقة، والقضاء علي الإرهاب، الذي يعتمد فيه علي مصر بالأساس، في ظل الضربة الأولي التي تلقاها من الكونجرس، بتخفيض 300 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر. الجميع في انتظار بداية العام الثاني من حكم ترامب في 2018، والذي بالرغم من تخطيه للكثير من العقبات الداخلية، إلا أنه مازال يأمل في تحقيق بنود استراتيجيته في المنطقة، لتظل بلاده هي المحرك الرئيسي لما تشهده منطقتنا من أحداث.