مافيهوش غلطة
بدعوة، خاصة، من نادي الصيد، في مدينة بورسعيد، وبالتنسيق مع لجنته الثقافية، توجهت إلى مدينة بورسعيد، لأُشاركهم احتفالات ذكرى حرب أكتوبر ٧٣ المجيدة، وهو ما أجد في متعة عظيمة، أن أتحدث للأجيال الجديدة، التي لم تُعاصر حرب أكتوبر، شارحاً لهم عظمة القوات المسلحة، واداءها المشرف في هذه الحرب، لا يضاهيها سوى متعتي بوجودي في مدينتي الحبيبة، ومسقط رأسي، بورسعيد، حيث ألتقي بأصدقاء الطفولة، والأقارب، فنتذكر، معاً، ما بذلته هذه المدينة، الباسلة، عبر التاريخ، من تضحيات.
كنت طفلاً صغيراً إبان حرب ٥٦، عندما سمعت عن بطولة رجال المقاومة الشعبية، في بورسعيد، في التصدي للموجة الأولى من جنود المظليين الإنجليز، وتمام إبادتهم، في منطقة مطار الجميل، على مدخل المدينة … ولما صرت شاباً، وضابطاً بالقوات المسلحة المصرية، سمعت عن ذات الواقعة، وأنا طالب في كلية كمبرلي الملكية، في إنجلترا، أثناء دراسة “حملة السويس”، كما يسميها الإنجليز، وشعرت بالفخر وأنا أتابع ملامح الغضب تكسو وجوههم، عند سرد تلك الأحداث.
وفي حرب ٦٧، وما تلاها من حرب الاستنزاف، طوال سبع سنوات، قدمت فيها المدينة الباسلة، بورسعيد، الكثير والكثير، كان من أهمها، تهجير أهالي المدينة، بالكامل، لقربهم من الجبهة، وهو ما يعد منطقة عمليات، فخرجت الأُسر، والعائلات، تاركين حياتهم، واستقرارهم، وراءهم في بورسعيد، وذاهبين إلى المجهول، فحملتهم الحافلات، مع القليل من أمتعتهم، بعضهم إلى عشش رأس البر، وبعضهم إلى المدارس بالزقازيق، وغيرها من مدن دلتا مصر، لتتشارك كل عائلتين في فصل، من فصول أحد المدارس … لقد بذل أهالي بورسعيد، ومعهم أهالي الإسماعيلية والسويس، تضحيات جمة، أعلوا فيها مصلحة الوطن، على المصالح الشخصية أو الفردية … تذكرت كل ذلك وأنا أقترب من مدينتي الحبيبة … وعند رأس العش، فتحت نافذة السيارة لأستنشق هواء بورسعيد، بما يحمله من ذكريات، متمتماً، “يجعلك عمار يا بورسعيد”.
والحقيقة أن مفاجأة هذه الزيارة، كانت في طريق “١٥ مايو”، الجديد، الذي نفذته الدولة، ليجعلك تصل إلى بورسعيد، من قلب القاهرة، في ساعتين، فقط. لم أصدق نفسي وأنا أسير على هذا الطريق؛ إنه طريق حر، مثل طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي المطور حديثاً، تم تنفيذه بأحدث التقنيات، وبأعلى المواصفات العالمية، تحده الحوائط الأسمنتية من الجانبين، ومثبت عليه جميع العلامات الاسترشادية الفوسفورية، يحتوي، طريق “15 مايو”، على ٨ حارات سير، أربعة منهم في كل اتجاه، إضافة إلى حارات منفصلة، على جانبيه، لشاحنات النقل الثقيل، لن يفوتك، وإن كنت غير ذي اختصاص، أن تلاحظ نعومة الطريق، ودقة المنحنيات … بصراحة طريق “مافيهوش غلطة”.
ووجدتني أعود بالذاكرة، إلى بضع عقود فاتت، عندما كنت متقدماً للكلية الحربية، وكان لابد من التوجه إلى مقر الكلية بالقاهرة، فتحركت من بورسعيد إلى الإسماعيلية، في ذلك الطريق القديم، ومنها إلى القاهرة، على طريق المعاهدة، المكون من حارتين سير، تعبر فيها الزقازيق، لتصل إلى القاهرة بعد ٥ ساعات. تم اختصار ساعة واحدة من تلك المدة، لاحقاً، عندما أنشأ المهندس عثمان أحمد عثمان، ابن الإسماعيلية، طريق الإسماعيلية الصحراوي، فكان انفراجة لأهالي الإسماعيلية، وبورسعيد … واليوم، تم اختصار تلك المدة إلى ساعتين، فقط، على طريق ليس به أي تقاطعات، وعلى أعلى مستوى.
وقبل دخولي بورسعيد، لمحت اللوحة الاسترشادية، تشير إلى أن مدينة دمياط، على بُعد 50 كم، على ذات الطريق، فتذكرت بعد حرب ٦٧، وإغلاق ميناء بورسعيد، وانتقال والدي، رحمة الله عليه، إلى دمياط ليكون مديراً لجمركها، تذكرت وأنا في الجبهة، عندما كنت أتحرك من القاهرة لزيارته في دمياط، أنني استخدمت سيارتي، مرة واحدة، فوصلت بعد ٧ ساعات، لمروري بكل طرق دلتا مصر، وبعدها صرت استخدم القطار، في رحلة تستغرق ٥ ساعات … فسعدت بشدة لقدرة أهالي دمياط للوصول إلى القاهرة، اليوم، في ساعتين ونصف، باستخدام ذلك الطريق الآمن.
وأمام دهشتي البالغة، وسعادتي الغامرة، التقطت هاتفي، لأحدث صديقي العزيز، اللواء أمير سيد أحمد، مستشار السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي للبنية الأساسية، والذي أعلم أنه يقضي الساعات، يومياً، مع السيد الرئيس لمتابعة إنشاء هذه الطرق، إذ يولي سيادته إنجازها أولوية قصوى، لما لها من آثار اقتصادية، واجتماعية كبرى. وبادرته مهنئاً إياه على تنفيذ هذا المشروع الضخم، بتلك المواصفات والجودة العالية، ومتعجباً من عدم تغطيته إعلامياً، ليهنئ المصريون أنفسهم عليه.
أفادني اللواء أمير سيد أحمد بنبذة عن طريق “١٥ مايو”، بأنه طريق حر، يربط دمياط بالميناء الجديد، وبورسعيد بالميناء، والمنطقة الاستثمارية، حتى يصل إلى البحر الأحمر، وموانيه، وصولاً إلى مدينة بورسودان … فكانت تلك مفاجأة كبرى، حتى أنني أعدت عليه كلامه، للتأكد من أنه يعني، بالفعل، ميناء بورسودان، فضحك، مؤكداً، أن ما سمعته صحيح، وهو ما يتسق مع إستراتيجية الدولة في بناء الطرق الجديدة، في مصر، في الفترة القادمة، وفقاً لأولوياتها، وعوائدها الاقتصادية، وهو ما كان واضحاً من رؤية، وتوجيهات، السيد الرئيس، بأن ربط هذه الموانئ على البحر المتوسط، مع موانئ البحر الأحمر، ثم السودان، من شأنه تحقيق نهضة اقتصادية عظيمة لمصر، وتمركز استراتيجي.
أغلقت الهاتف، وقرأت الفاتحة، على روح أستاذتي العظيمة، الدكتورة سعاد الصحن، أستاذ الجغرافيا السياسية، حينما انتسبت لكلية الآداب، بجامعة عين شمس، عندما كانت تحاضرنا قائلة، “أن الطرق هي شرايين الحياة لأي دولة، وإذا أردت قياس تقدم الدول، فعليك بحساب حجم الطرق بها، ومستوى، ودقة، تنفيذها” … رحمة الله على الدكتورة سعاد الصحن … لقد وضعت الدولة خطة متكاملة لإنشاء الطرق، أما من حيث التنفيذ، فبالفعل، “مافيهوش غلطة”.