الأستاذ هيكل … كما عرفته
مع نسمات صباح يوم الأحد … وأنا أخرج من محطة مترو الأنفاق في لندن،عند ناصيةحديقة الهايدبارك … وهو يوم أجازتي الأسبوعية وأنا طالب في كلية كمبرلي الملكية … منتهزاً هذا اليوم حيث تكون متاحف لندن مفتوحة مجاناً … خرجت ولمسات برد الشتاء تستقبلني … ومعها صوت صبي إنجليزي ينادي Sunday Times … Road to Ramadan ..Heikal… تماماً، مثلما نفعل في شوارع القاهرة، آنذاك … “أقرا الحادثة” … صوت ذلك الصبي يعلن أن صحيفة التايمز اللندنية، أكبر الصحف البريطانية، وأشهرها أوروبياً، تنشر كتاب محمد حسنين هيكل “الطريق إلى رمضان” … تنشره الصحيفة في عددها الرئيسي، الأسبوعي … يوم الأحد. والحقيقة أنني لم أصدق نفسي … فأنا الضابط المصري … الذي يدرس في لندن … والذي خاض حرب أكتوبر 73 منذ عام … والآن هنا … على مشارف الهايدبارك أسمع من ينادي “هيكل” … و”حرب أكتوبر” … ذلك الكتاب العلمي، الوحيد، عن حرب أكتوبر … ها هو قد وصل إلى العالمية.
وقد استدعى هذا الموقف شريطاً من الذكريات مع الأستاذ هيكل … وعدت عاماً إلى الوراء … لأجد نفسي في مركز القيادة الرئيسي للقوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر … وكانت أول مرة يحضر هيكل للقاء العقيد صلاح فهمي لاستلام الجزء العسكري الخاص بالتوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر … ليعيد الأستاذ هيكل كتابته بعدها بساعات … ويتم إيداعه في ملف وثائق حرب أكتوبر … بعدما عرضه على الرئيس السادات، والمشير أحمد إسماعيل وزير الدفاع، والفريق الشاذلي رئيس الأركان، واللواء الجمسي رئيس عمليات القوات المسلحة.
وتابعت خطواتي إلى متحف الفن الحديث، سيراً على الأقدام … فالهواء منعش … ولندن،يوم الأحد، هادئة إلا من القليل منالعربات والمارة. وساعدني هذا الهدوء على تذكر علاقتي بالأستاذ هيكل منذ طفولتي، بعد ثورة 52. فقد كان ملايين المصريين والعرب ينتظرون جريدة الأهرام المصرية يوم الجمعة … أما وقد كنت أكبر أخواتي … وحيث أنه يوم عطلة ولن يذهب والدي إلى عمله … فكانت مهمتي أن أتوجه في الصباح الباكر من ذلك اليوم لأحضر لوالدي الأهرام … ليقرأ “بصراحة” … وهو عنوان أشهر، وأقدم مقالة في العالم العربي … وحذوت حذو أبي في قراءة هذه المقالات … التي حرص على قراءتها قبل إفطاره … ومن تفوته فرصة قراءتها في ذلك اليوم، كان يستمع إلى هذه المقالة على إذاعة صوت العرب … حيثيذيعهاالراديو… وينتظر العالم العربي، كله، بلهفة تحليلات .. وآراء هيكل العظيمة.
ومرت الأيام … وتخرجت من الكلية الحربية … وانضممت إلى القوات المصرية المحاربة في اليمن … فكنا، جميع أفراد الكتيبة، نلتف كل يوم جمعة، في تمام الساعة السابعة مساءاً، حول الراديو … لنستمع إلى مقال هيكل “بصراحة”. وأذكر جيداً مقالاته حول حرب اليمن … خاصة تلك المقالة الشهيرة “يا جبال صرواح .. رفقاً بأبناء مصر” … وعشنا مع هيكل ثلاثة سنوات كاملة قضيتها في حرب اليمن … كان لنا هو فيها همزة الوصل من جبال صرواح إلى دلتا نهر النيل.
وعدنا من حرب اليمن إلى هزيمة 67 … ورغم حبي الشديد للأستاذ هيكل، إلا أنني تألمت، حقاً، من كتاباته بعد الهزيمة … لست أنا فقط، ذلك الضابط الصغير، وإنما كل ضباط الكتيبة. ولكن، للأسف، فيما بعد … عرفنا أن الحقيقة، دائماً، مؤلمة … وموجعة … وأننا نسعى دوماً للتفاؤل، والأخبار السارة. ورويداً .. رويداً … بدأ الأمل يدب في مقالات الأستاذ هيكل … ومنه إلى وجدان كل رجال الجيش على ضفاف القناة. حتى جاء نصر أكتوبر 73 … وكان كتابه هو الوحيد الصادر عن كاتب مصري له مكانته بين دور النشر في العالم.
وأنهيت جولتي في متاحف لندن … فلم يكن مرتبي كطالب علم في لندن يسمح لي إلا بهذه المتعة المجانية يوم الأحد. وفي المساء، وأنا أشاهد محطة BBC1 … كان ثاني خبر في نشرة التاسعة مساءاً هو استقبال هيكل في لندن، بمناسبة نشر كتابه Road to Ramadan ضمن مؤسسة التايمز البريطانية … وصدوره في حلقات أسبوعية يوم الأحد. وأحسست، يومها بالفخر … هيكل في التليفزيون البريطاني … إنه الكاتب العربي الوحيد الذي ظهر في التليفزيون البريطاني … وعلى أهم محطاته … وكتاباته في أهم الصحف البريطانية.
ودارت الأيام … وحدث ما حدث بينه وبين السادات … وقبض عليه … وانتهى زمن “بصراحة” … وابتعدنا، طويلاً، عنه، حتى جاءت ثورة يناير 2011 … التي شاءت أن ألتقيه عدة مرات في منزله المطل على نهر النيل … وتكلمنا كثيراً … ونقلت عنه معلومات، وأفكار إلى المجلس العسكري … وأعترف، وبكل صدق، أنني لم أر في حياتي شخصية تجمع هذا الفكر … الممزوج بخبرة السنين … وذابت كلها في بوتقة حب الوطن.
وأذكر أنني تكلمت معه بعد أول لقاءاته مع الأستاذة لميس الحديدي … وأبديت بعض آرائي المتواضعة لأستاذي العظيم … التي تقبلها بكل تواضع … وقال لي “لو سمحت كلم لميس الحديدي … صديقتك … وبلغها بالراحة علي في الأسئلة” … وضحكنا سوياً. وكثرت بيننا المحادثات التليفونية … للاطمئنان. وطلبت منه نسخة من حلقاته مع قناة الجزيرة، التي تحدث فيها عن تاريخ مصر قبل ثورة 1952، ثم أحداث الثورة يوماً بيوم … والتي أكملها بتاريخ مصر الحديثة. ويمكن القول بأن هذه الحلقات شاهداً على تاريخ مصر الحديث … وستكون مرجعاً لكل الباحثين ورجال العلم.
رحم الله الأستاذ العظيم … فخسارته ليست لمصر وحدها، ولكن للعالم العربي بأسره. ويبدو أن قدر مصر أن تخسر العظام من رجالها الأكفاء في هذه الأيام.