وثائق الأستاذ هيكل … إلى أين؟
تابعت تعليقات معظم الصحف ووسائل الإعلام العربية والغربية عن وفاة الأستاذ هيكل، ولقد لاحظت أنها جميعاً … اجتمعت أنه أكثر الكتاب في العالم، الذي اعتمد في كتاباته، ومقالاته على وثائق حقيقية، بعضها كتابات بخط أصحابها، خاصة الرئيس الراحل عبد الناصر. بل لقد كان الرجل يحتفظ بكل قصاصة ورق، أياً كان حجمها، لتظهر بعد عشرات السنين، مؤكدة لحقيقة قد تكون غائبة عن الأذهان. كثير من هذه المكاتبات وارد من رئاسة الجمهورية، أو وزارة الخارجية، أو من مؤتمرات القمة العربية، أو حتى نماذج من قرارات هامة، كان معظمها في بداية ثورة يوليو 1952، وإبان حكم عبد الناصر. ويمكننا حصر تلك الوثائق كاملة من حوارات قناة الجزيرة، التي أجرتها معه عن تاريخ مصر الحديث، منذ الأربعينيات وحتى حكم الرئيس السادات، وكلها وثائق حقيقية، وفي غاية الأهمية، توثق لتاريخ مصر الحديث، وتدقق لأحداث ومواقف، سيحتاجها المؤرخون فيما بعد، لصياغة تلك الحقبة من تاريخ مصر.
والآن، وبعد أن انتقل هيكل إلى رحاب ربه، يجب أن ننظر بعناية، وبهدوء على كيفية التصرف في هذه الوثائق الهامة. وفي البداية، لا أعتقد أن أسرته، وأعني زوجته وأولاده الثلاثة، سيمتنعون عن أن يتم حفظ هذه الوثائق بالصورة اللائقة، لتكون أحد وثائق هذه المرحلة في تاريخ مصر الحديث. بعدها يجئ دور الدولة في الحفاظ على هذه الوثائق، وعرضها بصورة علمية أولاً … وبصورة أرشيفية ثانياً … وأعتقد، من وجهة نظري الشخصية، أن من يتحمل هذه المسئولية هو وزارة الثقافة، بما لها من إمكانات، ودور لحفظ مثل هذه الوثائق.
والاقتراح الثاني، الذي سيكون فيه تكريم يليقبهذا الرجل العظيم، وأرجو أن أكون مصيباً فيه، أنه من الممكن أن توضع هذه الوثائق في جزء خاص، يحمل اسم هيكل، من متحف ثورة يوليو 52، في المبنى القابع على ضفاف نهر النيل، الذي كان يوماً مقراً لقيادة الثورة. ورغم مرور العديد من السنوات، وما سمعناه من وزراء الثقافة المتعاقبين، عن قرب افتتاح المتحف، إلا أنه، وبعد ما يقرب من نحو أربعة عقود، مازال حلم متحف ثورة يوليو 1952، في أدراج وزارة الثقافة. وأياً كانت الأسباب، فلربما كان ذلك التأخير في مصلحة هذا الاقتراح، ليتم تخصيص جزء من المتحف، وفقاً لحجم الوثائق، باسم الأستاذ هيكل. وهو ما يستدعي، أولاً، تجميع هذه الوثائق، ثم تصنيفها، بعد ذلك، زمنياً، لتحديد الملائم لتضمينه في وثائق هذا المتحف، المعني بالأحداث التي سبقت ثورة يوليو وكانت سبباً رئيسياً في قيامها، ثم أحداث الثورة ذاتها، بكل تفاصيلها، وما تلاها من فترة حكم الرئيس عبد الناصر. وقد تابعنا كل ذلك خلال لقاءاته مع قناة الجزيرة في تغطيته لتلك المرحلة، ثم المرحلة الأخيرة من الثورة، فبل اعتقاله في فترة السادات. كما أود أن أركز على دوره في فترة حرب أكتوبر 73، خاصة أنه كتب التوجه الاستراتيجي للحرب. وهل توضع هذه الوثيقه، بخط يده، في متحف الثورة، أم توضع ضمن مقتنيات المتحف الحربي التابع للقوات المسلحة عن فترة حرب 73. ثم تأتي، بعدها، وثائق عديدة حول كتاباته، وتحليلاته المختلفة عن فترات مختلفة، وموضوعات مختلفة، مثل ثورة إيران، ومقابلته الشهيرة مع الخوميني، ومقابلته ولقاءاته مع معظم قادة رؤساء العالم. كل ذلك ممكن أن يصنف كجزء منفصل من أعمال هيكل خارج تاريخ هذه الفترة الهامة في حياة مصر والمصريين.
وأيضاً أحب أن أشير، إلى العديد من الكتب التي قدمها هيكل للحياة الثقافية، ليس لمصر فقط، ولكن للعالم كله، وكذلك مقالاته في الصحف الأجنبية، وأخيراً لقاءاته التليفزيونية، لذلك أعتقد، في النهاية، أنه يجب الحصول على موافقة أسرة الأستاذ هيكل للأستفادة من هذه الوثائق، بعدها تشكل لجنة لتصنيف، وفرز هذه الوثائق، وتحديد مكان وكيفية الاستفادة منها، وإمكانية عمل نسخ من بعض هذه الوثائق، لتكمل اتجاهات أخرى، مثل بعض وثائق حرب 73 … ونكسة 67 … والعلاقات العسكرية المصرية-السوفيتية خلال هذه الحروب.من كل ذلك، وغيره، تخرج اللجنة بأسلوب الاستفادة من هذه الوسائل، وعرض الأفكار حول هذه الوثائق.
وهناك جزء خاص بوثائق الأستاذ هيكل، وهي مجموعة الحلقات التي قدمها في قناة الجزيرة على مدار عام كامل؛ قدم فيها رؤيته الكاملة للحياة السياسية في مصر، ومشاركته فيها، وتعليقه عليها، وفكره الخاص عن كل مرحلة، خاصة تلك التي سبقت ثورة يوليو 1952. ثم حكاياته، وهو شاهد عيان بالمستندات، عن قيام الثورة ذاتها، ودور الضباط الأحرار فيها، وأحداث ليلة الثورة. وأمتعنا، في تسلسل شيق، بمجريات الأمور، كاملة، خلال فترة حكم عبد الناصر. هذه المجموعة من الحلقات، آراها توثيقاً هاماً، لتلك الفترة الفاصلة في تاريخ مصر الحديث. وأذكر أنه في فترة إعدادي لأفلام وثائقية عن القوات المسلحة المصرية خلال حرب أكتوبر 1973، كان أول هذه الأفلام يتناول حرب 1967 وفترة النكسة، ورأيت أن يكون المتحدث الوحيد عن هذه الفترة هو الأستاذ هيكل، لإلمامه الواسع بكافة تفاصيل الأحداث، وعندما طلبت منه المشاركة ببعض المواقف السياسية، وتطور الأحداث التي أدت إلى حرب 67، خاصة على الجبهات السورية والأردنية والفلسطينية، أعتذر لأسباب خاصة به. وتوالت العقود، حتى تابعت حديث الأستاذ هيكل عن تلك الفترة، في حلقاته بقناة الجزيرة، وأشهد بأنه، بالفعل، أضاف الكثير من المعلومات والتحليلات عن أحداث هذه الفترة الهامة من تاريخ مصر. ولذلك أتمنى من عائلة الأستاذ هيكل، أن تقدم نسخة من هذه الحلقات، ليس فقط للمتحف المقترح، وإنما لجميع مكتبات الجامعات المصرية، خاصة في كليات التاريخ، وكذلك لجميع مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية.
إن مصر غنية بتاريخها العظيم، القديم والمعاصر، ويجب أن نحافظ على هذا التاريخ، ويكفي ما حدث لفيلا أم كلثوم، ومحتويات ومقتنيات هذه الراحلة العظيمة، والتي نجح ورثتها في هدم فيلتها بين يوم وليلة ليقام مكانها برج سكني … وللأسف يحمل اسم الراحلة أم كلثوم.
ولقد آثرت كتابة هذا المقال اليوم، قبل أن تختفي هذه الوثائق الهامة بفعل فاعل، كما رأيناه يحدث من قبل في حالات عدة، فضلاً عن كونها فرصة عظيمة لتكريم هذا الرجل العظيمة، الذي لم يدخر جهداً في العطاء لمصر، سواء في كتاباته، أو أفكاره، وتحليلاته، وأعطاها مكانة كبيرة، لأنه كان من أعظم كتاب العصر الحديث لمصر والعالم العربي.