الأهرامفي الأوبـــرامقالات صحفية

جنرال في الأوبرا

تلقيت مكالمة، أعتز بها، من صديقي العزيز، صلاح منتصر … يهنئني فيها على حصول مقالاتي على أعلى نسبة قراءة في الأهرام … وطلب مني أن أكتب عن تجربتي في دار الأوبرا … مضيفاً أنه يعتبرها تجربة ثرية من جميع نواحيها. وثقة مني في صديقي المخلص، أبدأ اليوم أولى مقالاتي عن تجربتي في دار الأوبرا المصرية.

في مساء أحد الأيام، من عام 2000، اتصل بي سكرتير رئيس الجمهورية، ليبلغني بأنه سيصدر قراراً، غداً، بتعييني رئيساً للمركز الثقافي القومي “دار الأوبرا المصرية”.

وذهبت إلى دار الأوبرا … مقر عملي الجديد … وما أن مر يومين على استلامي للعمل، حتى جاء مانشيت بإحدى الصحف الفنية بعنوان … “جنرال في الأوبرا” … وجاء المقال مهاجماً بشدة لفكرة وجود ضابط جيش، على رأس أكبر صرح ثقافي في مصر … المركز الثقافي المصري … دار الأوبرا. وتلقيت الضربة في هدوء، عاملاً على استعراض نقاط الهجوم، للاستفادة منها، ولكنها كانت، للأسف، هجوماً على الفكرة في حد ذاتها.

وجاء أول يوم سبت لي في الأوبرا، وهو اليوم المخصص لأوركسترا القاهرة السيمفوني، الذي يعزف المقطوعات الكلاسيكية، لفنانين عالميين أمثال بيتهوفن، وباخ، وتشايكوفسكي. ودخلت المسرح الكبير لحضور العرض … على خشبة المسرح نحو مائة عازف من أمهر العازفين المصريين والأجانب، لضمان جودة العمل … وهو ما يجعل الجزء الأكبر من ميزانية الأوبرا، يخصص لأوركسترا القاهرة السيمفوني، علماً بأن هذه الميزانية قد تزيد عن ميزانية بعض محافظات مصر. وكانت الصدمة عندما رأيت المائة عازف، يواجههم سبعون ضيفاً … في ذلك المسرح الكبير المصمم ليسع ألف وخمسمائة فرد … كان من بين هؤلاء السبعون، عشرون قد حضروا بدعوات، أما أغلبية الخمسون الباقون، فكانوا من الجاليات الأجنبية المقيمينبالقاهرة، خاصة وإن علمت أن تذكرة حضور أوركسترا القاهرة السيمفوني، تعادل نحو 5 دولارات … أرخص تذكرة أوبرا في العالم … لعمل فني رائع، ومتميز.

كانت هذه الضربة الثانية التي تلقيتها بوصولي لهذا المكان … فقررت،ساعتها،أن أحطم أسوار الأوبرا، لتصبح مكاناً لكل أفراد الشعب. وكانت أولى خطواتي، أن أبدأ بالشباب … عماد المجتمع … واتصلت في اليوم التالي، بالأخ العزيز الدكتور مفيد شهاب، رئيس جامعة القاهرة، آنذاك، واقترحت عليه حضور 400 طالب، يومياً، من المقيمين بالمدينة الجامعية، لحضور عروض دار الأوبرا، مجاناً. فرحب الدكتور مفيد شهاب على الفور … وكان هذا عهدي به، دائماً، فعلاوة على قيمته العلمية في مجالات القانون، فهو من أهم رجال الثقافة، وداعميها في مصر. ومساهمة منه في إنجاح الفكرة، فقد خصص أتوبيسات من جامعة القاهرة، لنقل الطلبة يومياً، بالمجان، إلى دار الأوبرا.

وجاءت الليلة الأولى، ووصلت أتوبيسات جامعة القاهرة إلى دار الأوبرا المصرية، ونزل الطلاب يرتدون الجينز، والتي شيرت، والأحذية الرياضية … وبدأ دخولهم مع رواد الأوبرا الذين يرتدون البدل ورباطات العنق، فالحقيقة أنني لم أكن أسمح بدخول أي من ضيوف الأوبرا بغير الملابس الرسمية، حتى أنني قد وفرت خمسون رابطة عنق في مكتب الاستعلامات، ليستعيرها من لم يحضر برباط عنقه، على أن يعيدها بعد نهاية العرض، وذلك للحفاظ على التقاليد العريقة لدور الأوبرا. واختلط الحابل بالنابل، وكان مشهداً بعيداً كل البعد، عن تقاليد الأوبرا … وسمعت من بعيد من يقول “آدي أخرة إن ظابط يمسك الأوبرا”. وكانت تلك الضربة الثالثة، في أسبوع واحد. وانتهى العرض. فمكثت طوال الليل أفكر فيما أفعل … هل ألغي الفكرة؟ … كيف؟ … ومتى يتاح لشباب مصر أن يطلعوا على هذا النوع من الفنون؟ ومن غير المعقول أن توفر دار الأوبرا، الملابس الرسمية للشباب، لاستخدامها أثناء العرض!

ومع نسمات الفجر، توصلت إلى الحل … قررت أن تصل أتوبيسات الجامعة قبل موعد بداية العرض، بنصف ساعة على الأقل، ويتم تنظيم دخول الطلبة من باب المسرح الصغير، على أن يجلسوا في بلكون بسعة 400 فرد، منفصل عن صالة العرض، وهو ما تم تنفيذه بالفعل في اليوم التالي. وقد استثمرت هذه النصف ساعة يومياً، بوجود نجوم الأوبرا، مع الطلبة، يشرحون لهم آداب وتقاليد الأوبرا، ويقدمون لهم نبذة عن العمل الفني الذي سيقدم في تلك الليلة. وهنا لا يسعني إلا أن أشكر الفنانين حسن كامي، ذو الحضور الجماهيري، ونيللي كريم، نجمة فرقة البالية، آنذاك، ومعها الفنانة نادين، وكذلك إيمان مصطفى، نجمة الغناء في الأوبرا المصرية والعالم العربي، وآخرين معهم، فلم يدخروا جهداً، أبداً، لتثقيف الشباب بفنون الأوبرا.

وكنت قد وضعت شاشات ترجمة للأوبرات العالمية، مثل أوبرا عايدة، وأوبرا لاترافيتا، وغيرهم … فيبدأ العرض، والكل مستمع ومنتبه، وعلى علم مسبق بطبيعته. ومع انتهاء العرض، قدمت لشبابنا مشروب مثلج، لكي يتأخر خروجهم قليلاً، فأضمن مغادرة باقي الحضور، بما يضمن عدم استياءهم من عدم تطبيق قواعد الأوبرا على البعض، وبما لا يخل بالهدف من توصيل الفنون الراقية إلى الشباب.

وبدأت بشاير نجاح التجربة … كل يوم 400 طالب من المدينة الجامعية … يحضرون أرقى الحفلات الفنية … بل لم يقتصر الأمر على حضورهم، بل تعلموا أنواع الفنون الأوبرالية. وكنت أشاركهم الحضور، وأتابع انطباعاتهم، وأذكر أن سألت طالبة، منتقبة، من الحضور، عن رأيها بعد انتهاء عرض البالية، فأجابتني بأنها من الزقازيق، ولم تذهب حتى إلى السينما في حياتها، وبالطبع، لم تدخل الأوبرا من قبل، وعبرت عن سعادتها بالحضور، وعن تذوقها لروعة العرض.

واتصل بي الدكتور مفيد شهاب، مهنئاً، وسائلاً عن إمكانية زيادة أعداد الطلاب، نظراً لتداول المبادرة، بين الشباب، وإقبالهم الشديد عليها، فاعتذرت له، بأدب، لأن سعة البلكون 400 فرد فقط. ويومها تيقنت من أن التجربة قد آتت ثمارها، وأن عصراً جديداً من الثقافة الخاصة، بدأ يرى النور في أعين الشباب المصري، حتى وإن لم يرق هذا الفن لبعضهم، إلا أنه يكفيني أنه قد تذوق هذا النوع من الفنون بنفسه، وكون رأي شخصي فيه.

وفي المقال القادم، سأعرض تجربة خروج دار الأوبرا للمحافظات، خاصة في الجامعات المصرية، في صعيد مصر … وهي ما اعتبرها ملحمة نجاح أخرى لصالح شباب مصر العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى