مصر فوق الجميع
كانت فترة رئاستى لمجلس إدارة المركز الثقافى القومي، دار الأوبرا المصرية، من أهم محطات حياتي، نظرا لبعدها التام عما درسته، وتعلمته، وطبقته فى حياتى العملية، ولكن الحمد لله، أستطيع القول إننى أنجزت الكثير فى هذه الفترة، وتعلمت فيها الكثير، وتعرفت على العديد من قمم الثقافة والفن فى مصر، وكان من أهمهم السيدة الفاضلة الدكتورة رتيبة الحفني، مغنية الأوبرا، التى أصبحت مسئولة عن الموسيقى العربية بها، ثم مسئولة الفنون والثقافة فى جامعة الدول العربية، وكانت العقل المدبر وراء تنظيم أعظم وأهم الاحتفالات الفنية فى العالم العربي. ولا أنسي، أبدا، الدكتورة سمحة الخولي، أستاذ الموسيقى فى الكونسرفتوار، ورئيسة أكاديمية الفنون، وهرما من أهرامات فن الموسيقي، ليس فى مصر بل فى العالم العربى كله، والتى كانت عضواً فى مجلس إدارة دار الأوبرا، وفى اليوم الأول اختلفنا بشدة فى أسلوب الإدارة، ولكن بعد ذلك امتدت صداقتنا، وكانت لى خير معين.
فى الأسبوع الأول لوصولى لدار الأوبرا، عرضت الدكتورة رتيبة الحفني، رحمة الله عليها، برنامج مهرجان الموسيقى العربية، وكان ضمن الفنانين المقترح مشاركتهم، المطرب كاظم الساهر، الذى كان نجمه قد سطع، فى ذلك الوقت، فى العالم العربى كله، بعد مشاركته فى الدورة السابقة للمهرجان، ووافقت على البرنامج كما اقترحته الدكتورة رتيبة. وبعدها بفترة أبلغتنى بأن الفنان كاظم الساهر يعتذر عن عدم المشاركة فى المهرجان، لارتباطه بحفل فى الولايات المتحدة الأمريكية، وقع عليه وكيله الفني، دون إبلاغه مسبقاً، وأنه سيتعرض لخسارة مادية كبيرة فى حالة عدم الالتزام به، ووعد الدكتورة رتيبة بتقديم حفل، مجاني، بدار الأوبرا، فور عودته من الولايات المتحدة، اعترافاً بفضل دار الأوبرا المصرية عليه. وتفهمت الموقف، وتم قبول اعتذاره، ولم يشارك الفنان كاظم الساهر بالمهرجان، ولم يفى بوعده فى تقديم حفل لاحق.
حل علينا موعد مهرجان الموسيقى العربية فى العام اللاحق، وعرضت الدكتورة رتيبة مقترح البرنامج، متضمناً فقرة للفنان كاظم الساهر، الذى زادت نجوميته فى هذا التوقيت، ليصبح من أوائل مطربى العالم العربي. فوافقت على البرنامج، ومازحتها قائلاً يارب ما يعتذر، فضحكت الدكتورة رتيبة، ذات الوجه الصارم، التى كنت اسميها الجنرال الألماني، لدقتها المتناهية وصرامتها الشديدة فى عملها، قائلة إنه أكد لها، شخصياً، مشاركته فى تلك الدورة.
وانطلقت الدكتورة رتيبة الحفني، فى الإعداد لهذا المهرجان السنوي، وهى من تعلم كل تفاصيله. وقبل افتتاحه بأسبوع واحد، أبلغتنى باعتذار الفنان كاظم الساهر عن المشاركة، لأن نجله سيجرى عملية جراحية دقيقة، فى الولايات المتحدة الأمريكية، بالتزامن مع موعد المهرجان، واعداً إياها بإقامة حفل آخر فور تمام شفاء ابنه. فنظرت إلى الجنرال الألماني، وابتسمت قائلاً، إن الحالات الإنسانية أقوى من الجميع. وكانت المشكلة أن تمت الدعاية لمشاركة الفنان كاظم الساهر، وجميع مطبوعات المهرجان تحمل اسمه ضمن فقراته، فقمنا بتعديل البرنامج، ولكن ضيق الوقت لم يسمح بتوزيعه على جميع القنوات المتاحة.
وبدأ مهرجان الموسيقى العربية، وفى اليوم التالي، جاءت مجموعة من الصحفيين إلى مقر دار الأوبرا، على رأسهم الكاتب الصحفى أمجد مصطفي، من جريدة الوفد، متسائلين ومستنكرين عدم مشاركة الفنان كاظم الساهر، رغم إعلان مشاركته، فأخبرناهم بالظروف الصحية لنجله، التى تستلزم أن يكون بجواره. فأفاد عدد من الصحفيين بأن الفنان كاظم الساهر موجود الآن بأحد الفنادق الكبري، على الضفة المقابلة من نهر النيل، يحضر ويغنى فى حفل عيد ميلاد إحدى الأميرات العربيات الموجودات بالقاهرة.
لا أنكر أن ما سمعته كان مفاجأة لي، لم أتوقعها على الإطلاق، لذلك طلبت مأمور شرطة الأوبرا، وطلبت منه التحقق من صحة المعلومة، فأرسل أحد ضباطه إلى ذلك الفندق الكبير، وفى غضون ساعة، عاد الضابط، مؤكداً إحياء الفنان كاظم لحفل عيد ميلاد الأميرة العربية. وفى صباح اليوم التالي، انعقد اجتماع لمجلس إدارة دار الأوبرا، تم خلاله اتخاذ قرار، بالإجماع، بحرمان الفنان كاظم الساهر من الغناء على مسارح دار الأوبرا المصرية مستقبلاً. وفى لحظات كان القرار قد تم نشره فى جميع وسائل الاعلام فى مصر والعالم العربي، بعدما شرحت الأمر للسيد الوزير فاروق حسني، لأنه الوزير الذى صدق على قرارات مجلس الإدارة، ومنعاً لتدخل أى جهات أخرى بعد ذلك.
والحقيقة أن جميع وسائل الإعلام المصرية، عدا اثنين فقط، ساندت بشدة قرار مجلس الإدارة. وبعدها انهالت الرسائل والمكاتبات، من كل مكان فى العالم العربي، لمهاجمة دار الأوبرا المصرية، حتى إننى أذكر أن ورق جهاز الفاكس كان ينفد فى ظرف دقائق، من كثرة الرسائل التى وصلت عليه لمهاجمة ذلك القرار. أما الفنان كاظم الساهر نفسه، فقد أباح، لمن حوله، بأن ذلك القرار، كان أقسى ما تعرض له فى حياته الفنية … وظل لعدة سنوات بعده، كلما يُطلب منه إجراء حوار صحفى أو لقاء تليفزيوني، يشترط، فى البداية، عدم إثارة قرار دار الأوبرا المصرية، أو التعليق عليه … لقد اتخذت قرارى هذا بمبدأ أن مصر فوق الجميع … مهما تكن التبعات، وهو ما يجب أن يسود فى الكثير من القرارات.