توني بلير … والأقصر
أمضيت في الأقصر سبع سنوات كاملة … محافظاً لها … قابلت خلالهم العديد من الرؤساء، والزعماء، وكبار الشخصيات من مختلف أنحاء العالم. كان لكل منهم موقف، أو تصرف، تابعتهم جميعاً، رغم اختلاف المفاهيم، والثقافات. كانت معظم زياراتهم، للأقصر، في أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، حيث الشمس الدافئة، ونهر النيل العظيم، والآثار التاريخية، فيقضون أجازاتهم في هذا الجو الأسطوري الذي لا تضاهيه بقعة من بقاع الأرض.
وأبلغت بأن توني بلير، رئيس وزراء المملكة المتحدة، آنذاك، قادماً إلى الأقصر، لقضاء أجازة الكريسماس. كان ذلك في أعقاب قضاءه لأجازة العام السابق في شرم الشيخ، التي كان من عشاقها، وظل يمضي أجازته فيها لأكثر من عشرة أعوام، حتى بعد تركه مقعده في 10 داوننج ستريت، كرئيساً لوزراء بريطانيا.
وقد كانت الدعوة الأولى له من الرئيس مبارك، وتمت استضافته في شرم الشيخ، في إحدى فيلات رجال الأعمال، إلا أنه بعد عودته، هاجمته الصحف الإنجليزية بشدة، واتهمته بقضاء أجازته في مصر على حساب الدولة المصرية، ومن أموال دافعي الضرائب، فما كان منه إلا أن أرسل تكاليف إقامته، كاملة، إلى واحدة من دور الأيتام في مصر.
وفي العام التالي، قرر أن تكون وجهته الأقصر، فوصلتني مطالبه للزيارة والبرنامج المقترح، فكان منها اثنين من المرشدين السياحيين، ممن يجيدونالإنجليزية إجادة تامة. علماً بأن الزيارة قاصرة عليه، وزوجته، وابنه الصغير “ليو”، أشهر طفل في أوروبا، في هذا التوقيت، حيث رزق به، توني بلير، وهو رئيساً للوزراء، وهو ما لم يحدث في المملكة المتحدة من قبل، أن ينجب رئيس الوزراء طفلاً وهو في الحكم؛ فقد كان توني بلير من أصغر رؤساء الوزراء في تاريخ بريطانيا.
وأطلعت على البرنامج المقترح، الذي أعده توني بلير شخصياً، كما عرفت فيما بعد، فكان فيه أن طلب الإقامة في الجناح الذي نزلت فيه الكاتبة الإنجليزية، أجاثا كريستي، صاحبة الفيلم الشهير “جريمة على النيل” “Death on the Nile”، والذي صور على ضفاف نهر النيل، في الأقصر. ويعرض هذا الفيلم، كل عام، في أعياد الكريسماس، على قناة BBC الإنجليزية، وهو ما جعل الأغلبية العظمى من رواد الرحلات النيلية العائئمة بين الأقصر وأسوان من الإنجليز. كما طلب توني بلير أن يكون غذاؤه، في أحد أيام الأجازة، على ظهر تلك الباخرة، التي تم تصوير ذلك الفيلم عليها، وظلت، حتى الآن، تعمل في رحلات خاصة، باعتبارها من أقدم الفنادق العائمة في الأقصر. وتعتبر هذه المركب، هي الوحيدة حالياً، من الجيل القديم الذي يعمل بالفحم، ونظراً لصعوبة استمرار عملها بالفحم، وصعوبة تعديلها بتركيب محركات حديثة على تصميمها القديم، فأصبح استخدامها عن طريق سحبها في النيل بواسطة لنش كبير.
ووصل توني بلير إلى الأقصر، في الموعد المحدد، على متن طائرة خاصة، واستقبلته في مطار الأقصر الدولي، وكان أول طلب له هو التحرر من القيود الرسمية. وترك ابنه مع زوجته في سيارة خاصة، واصطحبته هو معي في سيارتي، فطلب التوجه مباشرة إلى الكرنك. وفي الطريق، عرف أنني درست في إنجلترا، في كلية كمبرلي الملكية، واستعدنا ذكريات كثيرة عن تلك المقاطعة، التي تصادف أنه عاش شبابه بها وهو طالب.
ووصلنا إلى ساحة معبد الكرنك، وحتى تلك اللحظة لم أعرف سبب طلبه لاثنين من المرشدين السياحيين، ونزلنا من السيارة، فاختار أحد المرشدين وقال له “ليو، ابني، سيبدأ هذا العام في دراسة التاريخ المصري الفرعوني القديم، وهذه هي موضوعات المنهج، ولأن الكرنك مهد الديانة للإله آمون، فسأترك ابني لك، لتشرح له هذا الجزء من دراسته”. ولم أصدق نفسي، وظللت أراقب وجه رئيس الوزراء البريطاني، بانبهار، وهو يراجع مع ابنه ليو موضوعات المنهج، وفقاً لخريطة معبد الكرنك، محددين موضوعات الدراسة المتعلقة بكل زاوية من زوايا المعبد. وتبادلت النظرات مع المرشد السياحي، الذي بادرني بقوله “يا أفندم، بقالي في الشغلانة دي 30 سنة، لم أر فيها مثل هذا الإعداد، من قبل، لزيارة الكرنك”. وجمع المرشد السياحي الأوراق، وانطلق مع ليو لداخل المعبد. أما توني بلير، فأخذ زوجته، مع المرشد الثاني، وانطلقا معاً، بعيداً عن ابنهم الصغير، حيث أمضوا خمس ساعات في الكرنك، أعتقد أنها كانت كافية للزوجين للتعرف على أسرار الكرنك، ولليو الصغير لللإلمام بمنهج السنة الأولى في التاريخ في مدرسته بلندن، عن التاريخ المصري القديم … تارريخ الفراعنة.
ثم كانت دعوتي لهم على العشاء في ذات اليوم، ودار الحديث حول موضوعات التاريخ التي درسها ليو في الصباح، خاصة أن الصغير طلب دعوة مرشده السياحي معنا على العشاء، بعدما قضى معه معظم اليوم في الكرنك. وبالرغم من دراستي بقسم التاريخ، بجامعة عين شمس، إلا أن مشاركتي كانت ضئيلة، مقارنة بحجم المعلومات التي شاركنا إياها توني بلير، نظراً لانبهاره بالتاريخ المصري، خاصة الفرعوني. والحقيقة أن المرشد السياحي المصري، كان أكثر من رائع في مشاركته. وأنهينا العشاء في قاعة فيكتوريا، بفندق ونتر بالاس، الذي أبهر توني بلير وزوجته، والحقيقة أن هذا الفندق كان دائماً، ومازال، فخراً لكل زائريه.
وفي ظهيرة اليوم التالي، اصطحبتهم إلى الغذاء، على ظهر الفندق العائم الذي طلبه رئيس الوزراء البريطاني، محل تصوير فيلم “Death on the Nile”، وقضينا ساعة كاملة، نطلع على معالم هذا الفندق. فتسمع في كل لحظة تعليقاً مثل هنا كان Peter Ustinov يفعل كذا، وهو الذي لعب دور المحقق في الفيلم، وهنا فعلت Bette Davis، أحد المشتبه بهم في الفيلم، كذا وكذا، وهنا كان David Niven يفعل كذا. أما المفاجأة، فكانت في مسز بلير، تدير الموسيقى التصويرية للفيلم، من خلال كاسيت صغير حملته معها لهذا الغرض، تلك الموسيقى التي أعدها المؤلف الموسيقي العظيم Nino Rota. ولقد شاهدت هذا الفيلم، الذي أنتج عام 1978، في سينيما الكورسال في بورسعيد، ثم شاهدته مرتين، بعد ذلك، على المحطات التليفزيونية الإنجليزية، خلال فترة إقامتي في إنجلترا للدراسة، إلا أن استمتاعي هذه المرة، على الطبيعة كان أجمل … وأروع.
عزيزي القارئ، هذه هي مصر … في عيون الآخرين. هذه هي الأقصر الرائعة، التي فقدنا الاهتمام بها. نحن نملك كنوزاً حقيقية … كنوزاً نادرة … كنوزاً غالية، ولكننا لا نجيد استغلالها للترويج لمصر، ولتنشيط السياحة. لقد شهدت الأقصر في ذلك الوقت، نسبة إشغال تاريخية، فلم يكن بها غرفة فندقية واحدة خاوية … كانت الحياة تدب في كل أرجائها؛ في الأسواق … والمطاعم … والمزارات. حرام علينا أن يهبنا الله كل هذه الثروات، فبدلاً من أن نحسن استغلالها، أرانا منشغلين عنها بحروب الفضائيات. لا أملك سوى أن أقول … لك الله يا مصر!