الأقصر واسطتي … إلى المستشفى الألماني
نحن ضباط القوات المسلحة، أهم ما نخرج به عند التقاعد،بعد الخبرة والشرف للانتماء للمؤسسة العسكرية … هو آلام الظهر، نتيجة التحرك بالعربات القتالية في الجبال والصحاري. وفي العام الماضي دخلت “نادي آلام الظهر”، وقضيت نحو عام ونصف بين مختلف المستشفيات ومراكز العلاج الطبيعي … للأسف بلا نتيجة. وجاء من ينصحني بالسفر إلى واحة أمراض العظام في العالم … ألمانيا.
بدأت رحلة البحث عن الطبيب والمستشفى المناسب؛ فالتخصصات سمة أساسية في البحث، بل إن التخصص يتشعب داخل التخصص الواحد، فهذه مستشفى متخصصة في فقرات معينة … وتلك متخصصة في فقرات مختلفة عن الأولى، وهذه مستشفى متخصصة في خشونة الركب … تختلف عن تلك المتخصصة في أربطة الركب!!
ووفقني الله في الاهتداء إلى المستشفى المتخصصة في حالتي، في مدينة ميونيخ الألمانية. وتم تحديد موعد الكشف بعد ستة أسابيع من أول اتصال بالمستشفى. وسافرت إلى ميونيخ، وتوجهت إلى المستشفى، التي أبهرتني ببساطتها،ونظافتها التي ينبغي أن تكون عليها أي مستشفى،مهما تواضعت إمكاناتها. وصلت في موعدي المحدد الساعة العاشرة والنصف صباحاً، لتبهرني الدقة والانضباط، إذ تقدمت إلي ممرضة، تحمل ستة أوراق من الأسئلة، للاستعلام عن تاريخي المرضي، وتاريخ عائلتي، وأسئلة أخرى عن طبيعة عملي خلال العشرون عاماً الماضية، وقسم آخر من الأسئلة عن عاداتي اليومية في الجلوس والوقوف والتحرك والاستخدامات المكتبية وصعود الدرج ونزوله … إلخ. ستة ورقات من الأسئلةتضاهي في دقتها عمل الأجهزة المخابراتية.
ثم دخلت لمقابلة الطبيب … شاب ألماني في الثانية والأربعين من عمره،يقف حوله ثلاثة من المساعدين، أحدهم أردني الجنسية. وبدأ العمل فوراً، بمناقشتي في إجابات الأسئلة السابقة، ثم تسلم مني الأشعات والتحاليل التي حملتها معي من مصر، رغبة في عدم إضاعة الوقت. فنظر إليها مؤكداً أنها تمت بواسطة أحدث أجهزة الأشعة المقطعية، الألمانية الصنع، موديل 2016، والتي لم تبدأ مستشفاه في استخدامها بعد … ولكن للأسف تم تصويري بطريقة خاطئة! وبدأ يشرح لمعاونيه الأخطاء في أوضاع تصوير الأشعة، وما نجم عنها من عدم تحديد المشكلة، وبالتالي استحالة التشخيص. ثم قال لي “سنعيدالأشعات على جهاز أقدم، موديل 2014”!!
وأجريت الأشعة في غرفة مخصصة، وتسلمت صورتها في الحال، وعدت بها إلى الطبيب، الذي شخص الحالة على الفور، بل وقرر طريقة العلاج المثلى. فحدد جلسة أولى للعلاج في ذات اليوم، وجلسة ثانية بعد ثلاثة أسابيع، فسألته عن إمكانية تحديدها خلال اليومين التاليين قبل مغادرتي لألمانيا، فاعتذر، مؤكداً أن الحاسب الآلي يظهر أقرب موعد بعد ثلاثة أسابيع، وعرض علي أن يكتب لي “بروتوكولاً” للعلاج لتطبيقه في مصر.
وما أن نطق كلمة مصر، حتى تحول الحديث إليها، فذكر أنه أمضى أجازات أعياد الميلاد في مصر لثلاثة سنوات، بدأها بالغردقة في 2008، وشرم الشيخ في 2009، ثم الأقصر في 2010، وكان قد انتبه إلى أنني كنت محافظاً للأقصر في ذلك الوقت، فأشاد بها وبأهلها، وبانبهاره بأن السائق، الذي اصطحبه أثناء زيارته، كان يتحدث الألمانية كأهلها، مضيفاً “لقد كان السائق يذكر المحافظ في كل مكان نذهب إليه ويشيد بنشاطه، وكذلك المرشد السياحي المصري، المتزوج من ألمانية، وله منها ثلاثة أطفال، لقد ذكرك كثيراً عند كل معلم، خاصة عند معبد الكرنك ووادي الملوك، شارحاً مجهوداتك في تطوير تلك المناطق”. واستطرد الطبيب حديثه بأنه بعد عودته من الأقصر، وما سمعه زملاءه منه عنها، فقد قرر كل العاملين بالمستشفى، تقريباً، قضاء أجازاتهمفي العام التالي هناك، إلا أن كل شئ تغيرنتيجة للأحداث التي شهدتها مصر!!
وأضاف الطبيب أنه كان يشارك،مؤخراً، في مؤتمر دولي عن أمراض العظام، بمدينة برلين، يحضره أكثر من 2000 طبيب، من مختلف أنحاء العالم، وبين جلسات المؤتمر، كان يجمعهم حديث عن ترتيبات أجازات أعياد الميلاد، مؤكداً أن من زار مصر من قبل، يفتقد زيارتها مرة أخرى، ومن لم يزرها، فإنه يتشوق إلى زيارتها، خاصة في هذا الوقت من العام، ثم قال لي “إن الألمان يعشقون مصر، ومن زارها لم يعد يستهويه مكان آخر. لقد وهبكم الله كنزاً كبيراً، ولكنكم للأسف لا تقدرونه حق تقديره، ولا تحسنون استخدامه”. وللأسف عجزت عن الرد!
وأثناء جلسة العلاج الأولى، وفقاً للنظام الألماني المنضبط دون تهاون، تجاذبت أطراف الحديث مع المساعد الأردني، الذي ذكر أنه في فترة تدريب لمدة عامين، مشيداً بما يتعلمه في هذه المستشفى، وهو ما يفوق ما تعلمه في الكتب الدراسية. وبعد انتهاء الجلسة، بادرت الطبيب الألمانيبالسؤال عن موعد الجلسة الثانية، في محاولة “مصرية” لتبكير الموعد. فنظر إلى مساعديه، قائلاً “أنا أعمل هنا منذ 12 عاماً، هل سمعتم يوماً عن استثناءاً قدمته أو قدمته المستشفى؟”، فأجابوه “بالطبع لا”، فاستطرد قائلاً “ستكون هذه المرة الأولى التي أقدم فيها استثناءاً. فلو سمحتم لي أن أدعوكم بعد غد على حساء معد في بيتي، لنتاوله في ربع ساعة أثناء الغذاء، على أن نخصص باقي وقت الغذاء، لتقديم جلسة العلاج الثانية لابن الأقصر”، فوافق مساعديه، وسجل الموعد على الحاسب الآلي، وجاءته الموافقة من مدير المستشفى في الحال، فنظر إلي قائلاً “إن الأقصر تستحق هذا الاستثناء.
وعدت إلى مصر، بعد إتمام الجلسة الثانية، والشعور بالتحسن، عدت وأنا أدعو الله أن يوفق وزير السياحة في وضع مصر على خريطة السياحة العالمية، بمايليق بها … أما مقالي القادم، بإذن الله، فسيكون رسالة إلى وزير التعليم العالي، بعدما شاهدته، من تطور في التدريب بعد الدراسة الجامعية.