العاشر من رمضان … ذكريات
عندما يهل علينا شهر رمضان المبارك من كل عام، أجد نفسي، دون تفكير مسبق، أتذكر يوم العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر 1973، ونحن في مركز القيادة الرئيسي للقوات المسلحة … منتظرين الأوامر ببدء العبور … وتحرير الأرض. أتذكر، أول ما أتذكر، الساعة العاشرة صباحاً، عندما رفعنا خرائط مشروع التدريب، ونضع بدلاً منه خرائط اقتحام قناة السويس … الخطة جرانيت … وبدأنا بفتح سجلات الحرب، أو المعركة، التي ندون بها كل الإجراءات. وللحق أقول … لم يتوقع أحد منا، أنه في الساعة الثانية ظهراً، سنكون بالفعل، ننفذ خطة العبور، واقتحام القناة، وتدمير خط بارليف، وتحرير سيناء.
كان الجميع يتوقع، أنه بعد قليل، سنعيد الخرائط، مرة أخرى إلى مكانها، بالخزائن السرية؛ فلم يكن أحد يتوقع أننا، بعد قليل، سنقتحم خط بارليف “المنيع”، ونستعيد سيناء. إلى أن جاءت الساعة الثانية ظهراً، ورأينا على شاشات الرادارات، طائرات الضربة الجوية؛ 220 طائرة، تعبر القناة إلى أهدافها في سيناء، ضد العدو الإسرائيلي. أدركت، حينها، أن عقارب الساعة قد تحركت، ولن تعود، أبداً، إلى الوراء!
وانشغلنا جميعاً بالبلاغات … سقوط النقاط القوية الإسرائيلية في خط بارليف … نجاح القوات الخاصة بسد فتحات أنابيب النابالم … بدء نزول القوارب المطاطية في عدد 12 موجة تحمل قوات المشاه من النسق الأول. أما أسعد خبر، في الساعة الأولى من بدء القتال، فكان الإشارة المفتوحة، التي أرسلها قائد القوات الجوية الإسرائيلية، إلى جميع الطيارين الإسرائيلين، بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15كم … وهو مدى حائط الصواريخ المصري … ساعتها كان تقديري، وأنا ضابط صغير، أن معركتنا ستنجح، لأن الطيران الإسرائيلي لن يستطيع التدخل في عملية العبور. وأننا بذلك حرمنا “اليد الطولى” للقوات الإسرائيلية، كما كان يطلق عليها.
وفي الساعة الرابعة ظهراً، كان الرئيس محمد أنور السادات، موجوداً في مركز العمليات، وأخبرنا بفتوى مفتي الديار المصرية، بجواز الإفطار لنا في هذا الجهاد العظيم، وقام أحد الجنود، منفذاً للتعليمات، بتوزيع سندوتشات علينا، فما كان من الجميع، إلا أن وضعناها جنباً، دونما أي اتفاق بيننا، واستمرينا بالعمل … والفرحة … كل دقيقة خبر عظيم … من البحرية “تمام” إغلاق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية. وبوصول المدمرات والغواصات المصرية، إلى أماكنها في باب المندب، بدأ تكوين رؤوس الكباري … “تمام” عبور 12 موجة من القوات المصرية بقوارب مطاطية … البدء في فتح الفتحات الشاطئية بخراطيم المياه … فكرة المقدم باقي … اقتراب براطيم الكباري من منطقة قناة السويس … سقوط أكثر من نصف النقاط القوية في خط بارليف … نجاح قوات الصاعقة في الوصول إلى عمق سيناء، ومنع تقدم القوات المدرعة الإسرائيلية، لنجدة قواتها على خط بارليف.
وجاء الغروب … ولم يذق أي منا رشفة ماء … فالجميع تعمهم الفرحة، وينصب تركيزهم على أحداث المعركة. مع بدء هبوط الليل، كنا جميعاً في غاية التفاؤل والسعادة، لنزول الكباري الخمس إلى قناة السويس، لبدء عبور الدبابات، ولصد الهجمات المضادة، المدرعة للعدو الإسرائيلي. ولقد حاول العدو الإسرائيلي، بالفعل، القيام بهجمات مضادة ضد قوات رأس الكوبري، ولكن الجندي المصري العظيم ظل متمسكاً بأرضه في سيناء. وكما كنا في القيادة، لم نتذوق لقمة واحدة، فإن الجنود، كذلك، فوق رمال سيناء، تمسكوا بصيامهم، فلم يتناولوا أي وجبة. ومر الوقت سريعاً … والأخبار الجميلة تتوالى … والعدو الإسرائيلي يستغل الظلام، ويستخدم أجهزة الرؤية الليلية، محاولاً النيل من القوات المصرية … فتأتينا الأخبار بأنه تم صد كل الهجمات الإسرائلية … ليلاً.
وبدأنا في التقاط الأنفاس … فالدبابات هي الدروع التي تحمي المشاه على الأرض … ثم بدأ عبور المدفعية. وأتذكر أنه في الساعة الرابعة ظهراً، كان جميع القيادات من الضباط، وحتى قائد اللواء، موجودون على أرض سيناء … ولم أدري إلا والساعة تشير إلى الثامنة مساءاً … وجاءت المجموعة الأولى من الضباط لتتسلم منا … ونحن نتلكأ، رافضين المغادرة، لكن بصيحة واحدة من الفريق الشاذلي، رئيس الأركان “الطاقم الصباحي يغادر مكانه فوراً”، انصعنا جميعاً للأوامر، وهنا، فكرنا في تناول كوب من الماء مع الساندوتش الذي أمر به الرئيس السادات، صباحاً.
وعلى الجانب الآخر في سوريا، كانت الأخبار، أيضاً، سعيدة؛ فالجيش السوري اقتحم الدفاعات الإسرائيلية، في هضبة الجولان، وتوغل سريعاً، وعبر مانع الخندق، الذي بناه الإسرائيليون، ليكون مانعاً مثل قناة السويس.
وفي يوم التاسع من أكتوبر، الثالث عشر من رمضان، عقد موشي ديان مؤتمره الصحفي الشهير، وأعلن هزيمة إسرائيل، بعد أن استكملت الفرق الخمس المشاه مواقعها في رأس الكوبري في سيناء، وبعد فشل كل هجمات العدو الإسرائيلي في زحزحة أي جندي مصري عن مكانه. ونجحت القوات المصرية في وضع مائتي ألف جندياً على الضفة الشرقية للقناة، في سيناء، في مواقع دفاعية، فشلت كل الضربات، أو الهجمات المضادة للعدو في اختراقها. وبعد مرور عشرات السنين، ظهرت المعلومات بأن إسرائيل كانت تنوي ضرب قوات الجيشين الثاني والثالث، كل منهما بقنبلة ذرية، عيار صغير، بهدف إيقاف تقدم القوات المصرية.
وأذكر أن الجنرال شارون، في كتابه الأول عن حرب أكتوبر 73، قال “كان عندي شك كبير في قيام المصريين بالهجوم في هذا التوقيت من العام، لأنه شهر رمضان، والذي يمتنع فيه المسلمون عن الأكل والشراب، معظم اليوم، فكيف لهم أن يقاتلوا بهذه القسوة والشراسة”، والحقيقة أن في كلامه إقرار بأن حربهم لم تكن نزهة، إنما قاتلوا الجيش المصري … القوي … العنيد، الذي لم تغير طقوس شهر رمضان أي من خصائصه.
في كل عام، في رمضان، أتذكر هذه الأيام الجميلة من تاريخ مصر المعاصر … أتذكر قدرة الرجال على تحقيق النصر … فالكل كان يحب مصر … ومخلصاً لترابها. ليت هذا الشعور يعود لنا، مرة أخرى، ونحن نستحضره في هذه الأيام … فما أشد احتياجنا له الآن!