حرب أكتوبر 73 … والفكر العسكري العالمي
بالرغم من مُضي أعواماً كثيرة علي حرب أكتوبر 1973،فإنها مازالت محفورة في ذاكرة التاريخ، وبالرغم مما قد يظنه البعض من أن المحللين العسكريين قد توصلوا إلي كل ما فيها من عِبر واستنتاجات، إلا أن مراكز الدراسات الاستراتيجية، والمعاهد العسكرية، في العالم كله، ما زالت تدرس وتحلل نظريات هذه الحرب، خاصة تلك التي قدمها الجانب المصري.
لقد كانت حرب أكتوبر 1973، بلا أدني شك، أحد أهم، وأعظم، الأحداث التاريخية في العصر الحديث، والتي غيرت العديد من المفاهيم، والأفكار السياسية والاستراتيجية والعسكرية، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل امتدت آثارها إلي العديد من مناطق الصراع حول العالم.
لقد بدأت وسائل الإعلام تتناول تفاصيل حرب 73، بمجرد الانتهاء من أعمال القتال … بدأت تتناولها من منظور مختلف عن التغطية الشاملة للحرب، فبدأت الأقلام تحلل هذا الحدث الجلل، من ناحيته السياسية، والعسكرية. وفي البداية، كانت الاتجاهات الأكثر وضوحاً، هي الاتجاهات السياسية؛ إذ تغير شكل الصراع في منطقة الشرق الأوسط، بعدما كان أشبه بالجسد المحتضر، في ظل رضاء القوي العظمي باستمرار “حالة اللاسلم واللاحرب” القائمة آنذاك. فالقوي الكبري تنأي بنفسها عن التورط في نزاعات أوصراعات مباشرة، أوحرب لا يعلم أحد نتائجها، في ظل وجود دلائل، وشواهد، وتقديرات عسكرية تشير إلي أنه لا أمل عسكرياً، أمام المصريين والسوريين، في إحراز أي نصر عسكري أمام الجيش الإسرائيلي … في أي صراع عسكري محتمل.
والواقع أن القوات المسلحة المصرية، كانت قد بدأت، فور هزيمة 1967، في عملية إعادة تنظيم، وتسليح الجيش المصري، الذي كان قد فقد أكثر من 70% من أسلحته، ومعداته، سواء عندما دمرت القوات الجوية الإسرائيلية الطائرات المصرية علي الأرض في المطارات المصرية، أوأثناء مرحلة الانسحاب من سيناء. وبدأ الجسر الجوي الجديد، بين مصر والاتحاد السوفيتي، في نقل الأسلحة والمعدات السوفيتية إلي مصر. وشرعت القوات المسلحة المصرية في إعادة تنظيم قواتها، فوراً … وهنا يجب علينا أن نشير إلي الفضل الكبير، في هذه المهمة، للفريق محمد فوزي وزير الحربية، الذي خلف المشير عبد الحكيم عامر. وبدأت القوات المسلحة المصرية، تحت قيادة الفريق فوزي، في بناء خط الدفاع الرئيسي غرب قناة السويس، لمدة عام، اطمأن بعدها، الرئيس عبد الناصر إلي أن الدفاعات المصرية، بتنظيمها، وتسليحها، قادرة علي إدارة معركة دفاعية أمام الجيش الإسرائيلي، إذا حاول اختراق قناة السويس.
في هذه الأثناء، كانت القوات المسلحة المصرية قد حققت عدداً من الانتصارات، التي كان من شأنها رفع الروح المعنوية للمقاتل المصري، التي فقدها، للأسف، بعد هزيمة 67. كان من أهمها، معركة رأس العش، حين حاولت القوات الإسرائيلية، شرق القناة، التقدم في اتجاه مدينة بورسعيد، للاستيلاء علي مدينة بورفؤاد، فتصدت لها مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية، وأوقفت تقدم قوات العدو، فكان نصراً عظيماً، تذوق المصريون حلاوته لأول مرة. كما كان للقوات الجوية المصرية دور كبير، في هذه الفترة، عندما غارت علي العدو، في عمق سيناء، مما أعطي دفعة جديدة للجيش المصري، وتأكد من قدرة قواته الجوية علي التصدي لأسطورة جيش الدفاع الإسرائيلي، المتمثلة في قواته الجوية. ثم جاءت الضربة القاتلة للبحرية الإسرائيلية، بإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، أكبر قطعهم البحرية، أمام سواحل مدينة بورسعيد. وطلب الإسرائيليون، آنذاك، من القيادة المصرية، بالسماح لهم بانتشال القتلي والغرقي من الجنود الإسرائيليين، دون تدخل من القوات المصرية … في عملية إنسانية.
وسوف يتوقف تاريخ العمليات البحرية طويلاً أمام عملية إغراق المدمرة إيلات، بلنشات الصواريخ المصرية، صغيرة الحجم. وهوما دفع مراكز الدراسات الاستراتيجية في العالم كله، وكذا مراكز البحوث في قيادات القوات البحرية في كل الدول، علي الفور، إلي دراسة، وتحليل هذا العمل العسكري غير النمطي. ولم تمض إلا شهور قليلة علي حدوثه، إلا وكان العلم العسكري البحري قد شهد تغييراً حاداً في المفاهيم الخاصة بفكر تنظيم، وتسليح القوات البحرية. وفي المؤتمر السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن IISS، تم الإعلان عن المفهوم الجديد لتنظيم وتسليح أي قوات بحرية في العالم، والذي سيعتمد علي الزوارق، ولنشات الصواريخ السريعة، بل أعلنوا انتهاء عصر بناء البوارج، وحاملات الطائرات، وأصبح تطوير القطع البحرية، يركز علي تطوير الزوارق الصاروخية، التي حقق بها المصريون هذه المعجزة.
وبعد مرور نحوعام من هزيمة 1967، أعطي الفريق محمد فوزي، وزير الحربية، “التمام” للرئيس جمال عبد الناصر، بجاهزية الخطة الدفاعية غرب القناة، فأصدر الرئيس عبد الناصر أوامره بالبدء في التخطيط للعملية الهجومية لاقتحام قناة السويس وتحرير سيناء. في هذه الأثناء، كانت حرب الاستنزاف قد بدأت علي ضفاف قناة السويس، بين الجيشين المصري والإسرائيلي، قام خلالها الجيش الإسرائيلي بتنفيذ عدد من الضربات والهجمات في عمق الأراضي المصرية، إذ قام بمهاجمة مدن القناة بورسعيد، والإسماعيلية، والسويس، وقامت القيادة السياسية، آنذاك، بتهجير أبنائها إلي الدلتا، والتهبت هذه المدن بنيران مدفعية العدو.
في هذا التوقيت، بدأت القوات المصرية في التدريب علي عبور الموانع المائية في أنهار دلتا النيل، بينما كانت إسرائيل تبني خط بارليف، علي الضفة الشرقية لقناة السويس. واستمرت حرب الاستنزاف نحوخمس سنوات، تعلم خلالها الجيش المصري الكثير، واستغل مدتها في بناء حائط الصواريخ المضاد للطائرات، الذي أصبح، بعد أكتوبر 1973، رمزاً من رموز تطوير الفكر العسكري، في العقائد القتالية حول العالم. أذكر جيداً وجودي في غرفة القوات المسلحة، علي الجبهة، أثناء حرب أكتوبر 73، وأنا استمع إلي رسالة مفتوحة، غير مشفرة، من قائد القوات الجوية الاسرائيلية، لجميع قواته “بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15كم”، الأمر الذي أتاح حرية الحركة للقوات المصرية، دون تدخل من القوات الجوية الإسرائيلية، وهوما يوضح مدي تأثير حائط الصواريخ المصري، علي شل قدرة سلاح الجوالإسرائيلي من دعم قواتهم علي الأرض، محطماً بذلك أسطورة “اليد الطولي” لإسرائيل، التي طالما تغنوا بها بعد نجاح ضربتهم الجوية في 1967.
ومع انغماس القوات المصرية في التدريب علي العبور، ظهرت العديد من المشاكل أمام المُخطط المصري؛ كان منها، مشكلة ارتفاع الساتر الترابي علي الضفة الشرقية لقناة السويس، حيث كانت مخرجات تطهير قاع قناة السويس يتم تجميعها علي الضفة الغربية للقناة، ووصل ارتفاعها إلي نحو20م، وكانت إزالته ضرورية للتمكن من عمل فتحات الكباري للعبور! فجاءت فكرة المهندس العسكري المقدم/ باقي يوسف زكي، باستخدام المضخات المائية، التي كانت تستخدم في بناء السد العالي، في هدم ذلك الساتر الترابي. كذلك كان هنالك التعامل مع أنابيب النابالم، التي وضعتها إسرائيل علي ضفاف القناة، فتم التخطيط لتخطي هذا العائق، بأن تتقدم مجموعات من الصاعقة المصرية، قبيل بدء الهجوم، لسد أنابيب النابالم أوتفجير خزاناتها. كما كانت نقاط خط بارليف الحصينة، إحدي المشاكل أمام المخطط المصري للهجوم، فما كان إلا أن تكونت مجموعات قتال خاصة، لمهاجمة كل نقطة دفاعية من نقاط خط بارليف.
كانت تلك لمحات سريعة، من شاهد عيان، لما تم في ميادين القتال، لكن ما لا يقل أهمية، هوما حدث في مراكز الدراسات الإستراتيجية، وما قام به المحللون، والمفكريون العسكريون، بعد انتهاء حرب أكتوبر 73، حيث عكف الجميع، علي دراسة وتحليل تلك الحرب، والاستفادة مما قدمه المصريون، من فكر عسكري متطور، سواء في تطوير أساليب القتال، أوإعادة تنظيم القوات، أوفي حساب التوازنات العسكرية.
لقد كان من أهم الإضافات التي حققتها حرب أكتوبر، لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، هومبدأ “النوعية”، بعدما اعتمدت مقارنة القوات، قبل حرب أكتوبر، علي أعداد الأسلحة والمعدات (الدبابات، والمدفعية، والطائرات، والغواصات، والمدمرات)، ولعل أشهر هذه الدراسات، التقرير السنوي الشهير لمعهد الدراسات الاستراتيجية في لندن IISS، “التوازن العسكري” The Military Balance، والذي كانت تعتمد مقارناته، بين القوات العسكرية، علي عدد المعدات والأسلحة التي تمتلكها. وجاءت حرب أكتوبر 73، لتقلب هذه الموازين، تماماً، خاصة أن هذا التقرير كان قد ظهر، في نسخته السنوية، قبل حرب أكتوبر، مؤكداً التفوق الكامل لإسرائيل، مما أسهم في إقناع العديد بأن مصر لن تغامر بالحرب.
وأفرزت حرب أكتوبر، عاملاً جديداً، لم يظهر، من قبل، في حسابات القوي، وهوالجندي المصري. ذلك الجندي الذي يعود له، ولإنجازاته في حرب 1973، الفضل في أن تقوم معاهد الدراسات الاستراتيجية والعسكرية، بإضافة عامل جديد لحسابات القوي، وهو”النوعية القتالية”، ويقصد بها الفرد المقاتل. ذلك العامل الذي غاب، قبل 1973، عن كل الحسابات والتقديرات، مما أدي إلي نتائج مغلوطة عن تفوق الجيش الإسرائيلي.
وختاماً، لا يسعنا ألا أن نقر بأن الانتصار المصري في حرب أكتوبر 1973، قد غير العديد من المفاهيم في مجال الفكر العسكري العالمي … وأنا علي يقين، بأن ما يحتفظ به الجانبان من وثائق، يحمل في طياته العديد والعديد من العِبر والدروس المستفادة، التي من شأنها إضافة مبادئ جديدة إلي العلوم العسكرية. وتظل هذه الحرب عملاً عسكرياً عظيماً، حققته القوات المسلحة المصرية، بالتعاون مع شعب مصر العظيم، وبمساندة من كل الشعوب والجيوش العربية … لترتفع هامات العرب جميعاً، بعد أعظم انتصارات العصر الحديث.