عندما بدأنا التخطيط للاحتفال بمرور ٢٥ عاماً على انتصارات أكتوبر المجيدة، كان الأساس أن يكون الاحتفال مختلف، في الشكل والمضمون، عن احتفالات الأعوام السابقة، باعتباره اليوبيل الفضي لهذا النصر العظيم … وحيث كنت مديراً للشئون المعنوية، آنذاك، ومن ضمن مسئولياتي تنظيم وتنفيذ جميع احتفالات القوات المسلحة المصرية، فقد وضعت هدفاً أساسياً لاحتفال ذلك العام، يضمن مشاركة جميع الأبطال العِظام الذين حاربوا، وحققوا هذا النصر المجيد، الذي سجله التاريخ الحديث كأعظم الانتصارات.
وبدأنا بالشق العلمي، حيث اقترحت تنظيم ندوة علمية عن حرب أكتوبر ٧٣، وبدايةً كنت أرى أن تكون هذه الندوة ذات صبغة دولية، ندعو إليها عدد من المحللين والمفكرين العسكريين، من كل أرجاء العالم، لنستمع لآرائهم، إلا أنني حصلت فقط على موافقة، للبدء بندوة مصرية، على أن يلحقها، بعد ذلك، ندوة دولية.
وبالفعل أخرجنا ندوة من أعظم الندوات، التي نفذت في تاريخ مصر، إذ حالفنا فيها الحظ، بمشاركة جميع قادة حرب أكتوبر، آنذاك، وأذيعت على الهواء مباشرة، على مدار ثلاثة أيام كاملة، فتمكن أفراد الشعب من متابعتها، ومعايشة أجواء النصر بشهادة أبطاله العِظام … ومن ناحية أخرى اقترحت فكرة إلقاء هدايا، من الطائرات الحربية، على كل مدن مصر، بمختلف المحافظات، فحققت، تلك الفكرة، سعادة كل أبناء مصر، والتفافهم وتفاعلهم مع هذه الاحتفالية الوطنية.
وجاء دور الاحتفال المسائي، فرأيت دعوة كل من شارك في هذه الحرب العظيمة، فكيف يكونوا هم صناع النصر، ولا يشاركون في إحياء ذكراه والاحتفال به، مكتفيين بمشاهدته عبر شاشات التليفزيون؟ ولتنفيذ هذه الفكرة، قررت إقامة الاحتفال في الصالة المغطاة، لإستاد القاهرة الدولي، والتي تسع ٤٠ ألف بطل، ممن شاركوا في ملحمة أكتوبر، وصنعوا النصر.
وتأكيداً على إخراج الحفل، في صورة متجددة، فقد أردت الابتعاد عن الأوبريتات التي تقدم كل عام، وهنا جاءتني فكرة، عندما كنت اتصفح، وأتابع، ما كتب عن حرب أكتوبر، في المراجع الأجنبية، إذ استوقفني كتاب يحمل عنوان “الزلزال”، ألفه مجموعة من الكتاب الصحفيين من بلجيكا، بناءً على متابعتهم للحرب من رئاسة الأركان الإسرائيلية، فوقع اختياري على اسم “البركان”، ليكون عنواناً لهذا الاحتفال، في كناية عن أن “البركان” المصري، هو الذي أحدث “الزلزال” في إسرائيل.
وبنصيحة من الوزير فاروق حسني، آنذاك، استعنت بالمخرج وليد عوني، لإخراج هذا العمل الكبير، لخبرته، وقدرته الفنية على إدارة ٤ آلاف جندي، وشاب، وفتاة، من المشاركين في هذا العمل، وبالفعل أبدع المخرج وليد عوني في إخراج العمل بصورة رائعة مشرفة، كما اختار الموسيقى التصويرية للعمل من فيلم الصخرة، فكانت من أروع ما يكون.
أما كلمات الأوبريت، فكتبها شاعر الأغنية الوطنية، مصطفي الضمراني، الذي نظم أبياتاً من الشعر، ألهبت المشاعر الوطنية للشعب المصري، لاستدعائها لبطولات القوات المسلحة، عبر التاريخ، فاستحق أن يلقب بشاعر البركان؛ لأنه بكلماته البسيطة، الصادقة، استطاع أن يتسلل إلى قلوب جميع المصريين، بجميع فئاتهم … أما أنا فقد لقبته، عن جدارة، بلقب “أيقونة الأغنية الوطنية”، ولازالت كلماته تتردد في أذناي.
كما شارك الفنان المصري كرم مراد بمقطوعة نوبية رائعة؛ (النيل بيتمشى … من توشكى لكلابشة)، وشاركت راقصة البالية المصرية، الدكتورة سحر هلالي، مجسدة صورة مصر العظيمة في هذا الاستعراض. ولأول مرة أدخلنا عروض الاستعراضات الضوئية (Projection)، في سماء الصالة المغطاة، لتحاكي ضربات القوات الجوية، والصاعقة، وتدمير خط بارليف.
وبينما بدأ العد التنازلي لهذا العمل، كان السيد المشير حسين طنطاوي، يحضر جلسة مجلس الوزراء، فهمس في أذنه أحد المسئولين، آنذاك، بأن الصالة المغطاة لا تصلح لتنفيذ استعراض موسيقي غنائي، مؤكداً أن هذا العمل سيفشل حتماً، ومقترحاً بضرورة اختيار شكل آخر، ومكان آخر، للاحتفال!!
حضر السيد المشير طنطاوي إلى الصالة المغطاة، لمتابعة البروفات النهائية للعمل، وأخبرني بما سمعه من السيد المسئول، بمجلس الوزراء، ونصيحته بالعودة للشكل التقليدي للاحتفال، لأن الصالة المغطاة لن تسمح بوضوح الصوت، مما سيؤثر على المشاهدين، والاحتفال بشكل عام، فابتسمت، بهدوء، لعلمي بمن أثار قلق السيد المشير طنطاوي.
وحيث أنني لم أكن لأغفل تلك المشكلة، أو أعرض مثل ذلك الاحتفال الهام، الذي يؤرخ لنصر عظيم، لأية إخفاقات، ولطمأنة السيد المشير، فقد طلبت سرعة حضور خبراء الصوت الإنجليز، الذين كنت قد استعنت بهم، لوضع خطة الصوت داخل الصالة، وأبلغت السيد المشير، بسابقة أعمالهم، وخبرتهم، إذ كانت هذه الشركة البريطانية، هي الوحيدة، بالعالم، التي نجحت في تنفيذ خطة للصوت في الصالات المغطاة. وحضر الخبراء، وبدأنا في شرح الخطة، وأنواع السماعات الجديدة، وأسلوب توزيعها، ووسيلة تلافي مشكلة صدى الصوت. واطلع السيد المشير على عروض الاحتفالات التي نفذتها الشركة الإنجليزية في دول أخرى داخل الصالات المغطاة. فاطمأن سيادته، نوعاً ما، لكنه طلب تنفيذ بروفة للصوت في اليوم التالي، فطلبت تأجيلها لبعد غد، لتكون بروفة حية، تكون فيها الصالات ممتلئة بالجماهير، لتعكس حقيقة جودة الصوت.
تمت التجربة بنجاح … وخرج الاحتفال في صورة رائعة، أبهرت الجميع، الحضور والمشاهدون، وصارت الصالات المغطاة مقراً لمثل هذه الاحتفالات، بعدما أتقن المهندسون المصريون، تكنولوجيا الصوت الحديثة، وأجادوا استخدام (البروجيكشن). وبعد الحفل الرئيسي، نفذنا احتفالات، لمدة أسبوع كامل، لشباب الجامعات المصرية في القاهرة، وعدد من المحافظات، ليصبح “البركان” هو أعظم عمل فني تم تنفيذه، حتى الآن، في ذكرى احتفالات أكتوبر.