25 أبريل … ومعركة طابا
يهل علينا شهر أبريل، من كل عام، حاملاً في طياته ذكرى احتفالات واحداً من أعظم أيام تاريخ مصر الحديث، يوم الخامس والعشرون، الذي تم فيها استرداد آخر شبر من أرض مصرنا الغالية، ليتوج رحلة عسكرية ودبلوماسية طويلة، خاضتها مصر، امتدت لما يقرب من 22 عاماً، بدأت خطواتها الأولى بعد أيام معدودة من هزيمة يونيو 1967، وما تلا ذلك من احتلال كامل لتراب سيناء، حيث شهدت جبهة القتال معارك شرسة، خاصة خلال حرب الاستنزاف، لتؤكد القوات المسلحة المصرية للإسرائيليين، أن احتلال سيناء، والأرض المصرية، ثمنه غال جداً، لن يتحملوا تكاليفه.
وخلال سبع سنوات، نجحت مصر في إعادة تسليح وتنظيم القوات المسلحة، وإخلاء مدن القناة؛ الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، وتم بناء حائط الصواريخ … وفي السادس من أكتوبر 73 كان قرار الرئيس السادات باقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، حتى تم تكوين خمس رؤوس كباري على الضفة الشرقية للقناة. ومع توقف القتال في 28 أكتوبر 73 بدأت المباحثات، التي لم تكن سهلة، وتم التوقيع على اتفاق فض الاشتباك، الأول والثاني، وما أعقبهما من مفاوضات السلام وكامب ديفيد، حيث استجابت مصر لنداء السلام، مبرهنة على قوتها الدبلوماسية، التي قادها ببراعة الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
وهكذا استعادت مصر، بدماء وجهد وعرق وفكر المخلصين من أبنائها، خلال الحرب والسلام والتفاوض، أرضها المحتلة، باستثناء طابا، إذ تلكأت إسرائيل، كعادتها، ولم تنسحب منها، مدعية أن هذه المساحة، 1020 متراً، لا تقع ضمن الأراضي المصرية. وجاء أول إعلان عن مشكلة طابا في مارس 1982، قبل شهر واحد من إتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، عندما أعلن رئيس الجانب العسكري المصري، في اللجنة المصرية الإسرائيلية، أن هناك خلافاً جذرياً حول بعض النقاط الحدودية، خاصة العلامة 91، وحرصاً من القيادة السياسية المصرية على إتمام الانسحاب الإسرائيلي، اتفق الجانبان على تأجيل الانسحاب من طابا، وحل النزاع طبقاً لقواعد القانون الدولي، وبنود اتفاقية السلام، وتحديداً المادة السابعة، التي تنص على حل الخلافات بشأن تطبيق، أو تفسير المعاهدة، عن طريق المفاوضات، وإذا لم يتيسر حل الخلاف يتجه للتوفيق أو التحكيم.
نص الاتفاق المؤقت، الذي وقعته مصر وإسرائيل، على عدم قيام إسرائيل ببناء أية منشآت في المنطقة، لحين الفصل في النزاع، إلا أن إسرائيل حاولت فرض الأمر الواقع، فأعلنت، في 15 نوفمبر 1982، عن افتتاح “فندق سونستا طابا”، وإنشاء قرية سياحية، كما ماطلت إسرائيل في اللجوء إلى التحكيم، مطالبة بالتوافق، وهو ما رفضته القيادة السياسية المصرية، وأجبرت إسرائيل على قبول التحكيم، في يناير عام 1986، بعد أربع سنوات من المماطلة، ودخل الجانبان في مفاوضات، لصياغة شروط التحكيم، انتهت في سبتمبر من نفس العام.
زعمت إسرائيل أن علامات الحدود أزيلت بفعل العوامل الطبيعية، والحقيقة أنها هي التي أزالتها بنفسها، وادعت عكس ذلك … فقدمت مصر للمحكمة الكثير من الأدلة والمستندات، التي تؤكد أن هذه البقعة مصرية، وكانت، دائماً، تحت سيطرة وسيادة مصر، وكان من ضمن ما قدمته للمحكمة، صورة للجنود المصريين تحت شجرة الدوم، في هذه المنطقة، وكانت هذه الشجرة موجودة أثناء التحكيم، فكانت، ومازالت، شاهد إثبات على حق المصريين.
وبعد مباحثات ومناقشات وجلسات طويلة، أصدرت هيئة التحكيم الدولية حكمها، في 27 سبتمبر 1988، بأحقية مصر في ممارسة السيادة على كامل ترابها، بعدما تم إثبات 10 علامات حدودية لصالح مصر، من مجموع 14 علامة، بأغلبية 4 أصوات، مقابل صوت واحد، وإثبات 4 علامات الأخرى، بإجماع الأصوات الخمسة. وامتد عمل هيئة الدفاع المصرية، بعد صدور الحكم، ومراوغات إسرائيل في التنفيذ، إلى عقد جولات أخرى من الاجتماعات لتنفيذ حكم التحكيم، وتسليم طابا، بمنشآتها، إلى مصر، حتى وصلت إلى المرحلة الأخيرة، بتسليم طابا في 15 مارس 1989، ورفع العلم المصري عليها في 19 مارس، فكانت لحظة عظيمة، وفارقة، في تاريخ مصر، برفع العلم على أعلى نقطة في سيناء.
ويرى المراقبون والمحللون، أن هناك عدة دروس مستفادة من معركة استرداد طابا، أهمها أنه لا يضيع حق وراءه مطالب، وأنه لا يكفي أن تكون صاحب حق، بل يجب أن تحسن الدفاع عنه وبالأسلوب الذي يفهمه الآخرون، ومسلحاً بعناصر القوة الاقتصادية والقانونية والعسكرية، ثم الاعتماد على الخبراء والمتخصصين، إلى جانب ضرورة معرفة الخصم، وأساليبه في المناورة والمراوغة، والحد الأقصى الذي قد يصل إليه، والحد الأدنى الذي لا يمكن تجاوزه، وأخيراً، وليس آخراً، حسن إدارة الأزمات وإيجاد التجانس بين فريق العمل، الذي يتشكل من عقليات مختلفة، تجتمع على الوازع الوطني، من أجل الوصول إلى الهدف.
وعندما نتذكر هذا النصر الدبلوماسي العظيم، فإننا نذكره بأسماء أبطاله، الذين حققوه، وهم السادة عصمت عبد المجيد، نائب رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس اللجنة، والأعضاء وحيد رأفت، ومحمد طلعت الغنيمي، وأحمد القشيري، وسميح صادق، وجورج أبي صعب، ومفيد شهاب، وأمين المهدي، وفتحي نجيب، وصلاح عامر، ويوسف أبو حجاج، ويونان لبيب رزق، وكل من تعاون معهم من لجان فرعية، أو خبراء مستقلين … فقد تولوا، بقوة وجلد، مسئولية إعداد خطة العمل، وتجميع الوثائق والمستندات اللازمة، لتعزيز وجهة نظر مصر حول القضية، أمام هيئة التحكيم، من جميع النواحي القانونية والتاريخية والفنية، حتى تحقق لهم النصر.
ومن هنا سيذكر التاريخ، دائماً، أن هذه المعركة الدبلوماسية، السياسية، التي انتصرت فيها مصر، واستعادت آخر حبة رمل من أراضيها، هي في الحقيقة درساً للأجيال القادمة، على عظمة وشراسة المقاتل المصري، ليس فقط في ميادين القتال الحربية، ولكن في ميادين القتال الدبلوماسية والقانونية والتاريخية … وعظيمة يا مصر.