رمضان … وانت عمرى
لواء دكتور/ سمير فرج
يهل علينا شهر رمضان، المعظم، كل عام، حاملاً معه العديد من الذكريات، التي عاصرها كل منا، منذ الصغر، فلازلت أذكر طفولتي، الرمضانية، في مدينتي الساحرة، بورسعيد، فبينما كانت طوابير العائلات، تصطف أمام محلات الكنافة، والقطايف، والهريسة، وأصابع زينب، المشهورة في بورسعيد، كنا، نحن الأطفال والشباب، نلعب الكرة على الشاطئ، يومياً، قبل الإفطار، ثم نركض، سريعاً، مع انطلاق مدفع الإفطار، لنتناول إفطارنا على صوت الشيخ الجليل محمد رفعت، ثم نلتف حول الراديو، لنستمع لفوازير الراحلة آمال فهمي، مرددة جملتها الشهيرة، “نقول كمان”، فلم يكن الإرسال التليفزيوني قد وصل لبورسعيد، آنذاك.
ما أن ينتهي وقت الإفطار، حتى تبدأ بورسعيد، كلها، أجمل سهراتها، التي تتنوع بين حفلات السمسمية، الممتدة على شواطئها، أو سهرات المقاهي في ممارسة لعبة “الطمبولا”، التي نقلها إليها الأجانب، المقيمون في بورسعيد، من لعبة “البينجو” في أوروبا، فلم يخل مقهى من هذه اللعبة المسلية، حتى باتت الأسر البورسعيدية تشارك في لعب الطمبولا، من شرفات منازلها، فوق المقاهي، التي كنا نرى سبل المياه، من القلل المعطرة بماء الورد والريحان، تزين مداخلها.
مرت السنوات، والتحقت بالكلية الحربية، وبعد إتمام عامين من الدراسة، عدنا للكلية، في أحد أيام الجمعة، بعد انتهاء العطلة الأسبوعية، لنفاجئ بخبر تخرجنا، الذي تقرر أن يكون يوم الخميس القادم، بسبب مشاركة الجيش المصري في حرب اليمن. وبالفعل، تخرجت دفعتي سريعاً، وانضممت، مع كثير من الزملاء، إلى سلاح المشاة، وتحركت ضمن كتيبتي، بعد أشهر قليلة، إلى اليمن، لنصل إلى العاصمة صنعاء، في يناير 1964، الذي وافق شهر رمضان المعظم.
تلقينا الأوامر بالتحرك إلى منطقة “بيت السيد”، التي تبعد عن صنعاء نحو 40 كم، وبالفعل، وصلنا إليها قرب المغرب، وتناولنا أول إفطار لنا، في مطبخ الكتيبة، ثم صدرت الأوامر بخروج سرية، من الكتيبة، قوامها 120 جندي و4 ضباط، لاعتلاء أحد الجبال وتأمين محيطه، إضافة إلى تكليف فصيلة، تتكون من 40 جندي، لاعتلاء جبل آخر صغير، فاختارني قائد الكتيبة، للمهمة الثانية من بين ثمان فصائل أخرى. ومع هبوط الظلام بدأت التحرك لاعتلاء الجبل ليلاً، ومع ظهور أول ضوء هاجمتني قوات “الإمام البدر”، فنجحت، وجنودي، في صد الهجوم، وأسقطنا منهم عشرات القتلى، وقدمت قواتي أول شهيد، وأصبحت أنا، ووحدتي الصغيرة، محاصرين، ومعزولين، عن قيادة الكتيبة، وهكذا وجدت نفسي، أنا الضابط الصغير، سناً ورتبة، البالغ من العمر 18 عاماً، محاصراً في موقعي، ومسئول عن قواتي، وليس معنا من الزاد، للإفطار إلا قالب الفولية، وزمزمية المياه، المسمى بتعيين الطوارئ.
وبدأت أتخوف من نفاذ بطارية جهاز اللاسلكي R105، فقررت غلق الجهاز، وفتحه كل ساعة، لمدة دقيقة، لأتلقى أوامر الكتيبة، وقضينا النهار في إعداد المواقع الدفاعية، حتى هبط الليل ونحن على قمة الجبل، ورياح يناير، العاتية، تتخلل نسيج “الأفرول الكاكي”، لتخترق أجسادنا، وصفير الرياح يزيد شعورنا بقوة البرد المتسلل لعظامنا. لم يكن معي سوى الراديو “الويلكو”، الصغير، الذي اشتريته من صنعاء فور وصولي، وكانت إذاعة مصر لا تصلنا إلا في المساء، ففتحت الراديو، لعلي أنشغل معه عن شدة البرودة، فجاءني الصوت من القاهرة، باحتفالها بلقاء السحاب، بين كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، في أغنية “أنت عمري” فاستمعت إليها، كاملة، وأنا في تلك الظروف الصعبة.
بزغ الصباح، فنظرت حولي، ولمحت على سفح الجبل، قرية تبدو خاوية، بعدما هجرها سكانها، جراء المعارك، فأرسلت دورية، لهذه القرية، للبحث عما طعام أو شراب، فعاد أفراد الدورية حاملين جوالات من العنب المجفف، “الزبيب”، وفناطيس من المياه، فأفطرنا، وتسحرنا، لأكثر من يوم وليلة، بالزبيب، بعد غمره بالمياه.
ورغم ارتباط الزبيب، بذكرى أيام عصيبة، إلا أنني لازلت أعتبره أحد وجباتي المفضلة، في ذلك الشهر الكريم، في حين صعُب عليّ، منذ تلك الأيام، أنا استمع، مرة أخرى، لأغنية “أنت عمري”، رغم روعتها، حتى بعد عقود طويلة، عندما أصبحت رئيساً لدار الأوبرا، كنت أتجنب حضور حفلات الموسيقى العربية، التي تقدم فيها “أنت عمري”، وكأنها تعيد إلى ذهني ذكرى حصاري، وجنودي، على قمم جبال اليمن السعيد، الذي لم يكن، أبداً، سعيداً بالنسبة لي، خاصة أنني خدمت هناك ثلاث سنوات، فقدنا خلالهم الألاف من شباب مصر، وعدنا إلى مصر، وتركناهم في قبورهم، هناك، في وديان وجبال اليمن.
لذلك عندما اتخذ السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، قراره منذ عامين، بعدم اشتراك القوات البرية المصرية، ضمن قوات التحالف، في اليمن، وقصر مشاركة قواتنا المسلحة على القوات الجوية، والبحرية، أثنيت، بشدة، على صواب قرار سيادته، وحكمته، واستحقاقه لعظيم التقدير والاحترام، ليس من أفراد القوات المسلحة، فحسب، وإنما من عموم الشعب المصري، باعتباره واحداً من أعظم القرارات الوطنية، والمصيرية، التي غلب فيها صالح شعب مصر العظيم، على أية اعتبارات أخرى، وهو القرار الذي سيسجل في التاريخ بأحرف من نور، وسيتذكره، بكل فخر، أبناء مصر، جيل بعد جيل.
Email: sfarag.media@outlook.com