الاستراتيجية المصرية نحو الدول العربية
تناولنا، عزيزي القارئ، في مقال سابق، الاستراتيجية المصرية نحو دول القوي العظمي، المؤثرة في أمن مصر القومي. والتي تمثلت في استراتيجيتها نحو الولايات المتحدة الأمريكية، واستراتيجيتها نحو الدول الأوروبية، عدا روسيا، والتي أفردت مصر لها استراتيجية مستقلة بصرف النظر عن موقعها الجغرافي، ثم تناولنا الاستراتيجية المصرية نحو دول آسيا، وأخري نحو دول جنوب غرب آسيا.
أما اليوم فنتناول مجموعة مختلفة من الاستراتيجيات التي تتبناها مصر، والتي يتحرك فيها المفكر الاستراتيجي المصري، قبل اتخاذ قراراته؛ وعلي أساسها يتم توقيع الاتفاقات السياسية أو الاقتصادية وحتي الثقافية والرياضية… وعلي أساسها يتم وضع خطط التسليح المستقبلية للقوات المسلحة المصرية. تتبني مصر خمس استراتيجيات مختلفة؛ أولها استراتيجيتها نحو الدول العربية، ثم استراتيجيتها نحو دول قارة أفريقيا، وثالثاً استراتيجيتها نحو دول حوض النيل، تليها دول حوض البحر الأحمر، ثم خامساً، وأخيراً، تأتي الاستراتيجية المصرية نحو دول حوض البحر الأبيض المتوسط. توضع تلك الاستراتيجيات المختلفة، لتحديد كيفية التعامل مع أي من تلك الاتجاهات، لما لكل منها من تأثير قريب ومباشر علي الأمن القومي المصري… وسوف نفرد مقالات متتابعة، لاحقاً، نتناول فيها تفاصيل كل استراتيجية علي حدة…
نبدأها، اليوم، بحديثنا عن الاستراتيجية المصرية نحو الدول العربية… فكما هو معلوم للجميع، فإن مصر هي “قلب الوطن العربي”… وهذا التعبير ليس مجازاً، أو نابعاً من الفخر والاعتزاز بالوطن، فحسب… وإنما تؤكده النظرة الفعلية لمصر سواء من ناحية موقعها الجغرافي، أو من ناحية القوة والتأثير علي دول المنطقة العربية. فبعد تدهور الأوضاع وانهيار الأنظمة الحاكمة في كل من تونس، وسوريا، واليمن، وليبيا، ومن قبلها العراق، بفعل “ثورات الربيع العربي”، فقدت هذه الدول جيوشها النظامية القوية، ولم يتبق من الدول، التي طالتها تلك الأحداث، إلا مصر، التي نجحت في اجتياز تلك الأحداث، محافظة علي تماسكها ووحدتها وصلابتها، وذلك بفضل من الله، ثم بفضل قواتها المسلحة، وحضارة شعبها العظيم… فلم تنجح أي من تلك التقلبات في النيل من ثوابتها وعقائدها.
كانت مصر، ومازالت، هي محور الوطن العربي… فهي واحدة من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية… وهي مصر التي قادت حركات التحرر في معظم البلاد العربية، وغيرها الأفريقية، بعد نجاح ثورتها في يوليو 52… وهي مصر صاحبة الريادة الثقافية من خلال قوتها الناعمة، وبمختلف أنواع الفنون… وهي مصر التي اتحدت الشعوب العربية خلف خطب رئيسها السابق جمال عبد الناصر… وبالرغم من تفكك تلك الوحدة، وتفتيتها في تجمعات أصغر مثل تجمع دول المغرب العربي، أو مجلس التعاون الخليجي، أو دول الشام التي مزقها النزاع بين قواها السياسية، إلا أن مصر تظل صامدة، وتظل قلب الوطن العربي، وصمام أمانه.
ومع ذلك، فإن هناك من الدول العربية ما يؤثر علي أمن مصر القومي، مثل ليبيا، الجار الغربي لمصر، التي لم تمثل، علي مر التاريخ، تهديداً مباشراً لمصر… باستثناء عام 1977، والذي شهد “حرب الأربعة أيام”، كما يطلق عليها، بين مصر وليبيا، بسبب اعتراض الرئيس الليبي معمر القذافي علي توقيع مصر لمعاهدة السلام مع إسرائيل. فما كان من القذافي إلا أن طرد عشرات الآلاف من المصريين العاملين في ليبيا، آنذاك، ودعا إلي مظاهرة حاشدة من طرابلس إلي مدينة السلوم علي الحدود مع مصر، بغية الوصول إلي القاهرة. كما دعا إلي إزالة الحدود مع مصر، وإقامة وحدة عربية بين مصر وليبيا. وهو ما اعتبره الرئيس السادات تدخلاً سافراً في الشأن المصري. وبالطبع، تصدت قوات حرس الحدود المصرية للمتظاهرين القادمين من ليبيا، فوجه القذافي نيران المدفعية علي مدينة السلوم المصرية، وحدثت اشتباكات علي الحدود بين قوات الطرفين، يوم 21 يوليو 1977. أمر، بعدها، الرئيس السادات بتحرك قوات مصرية إلي داخل ليبيا، بالتزامن مع هجوم القوات الجوية المصرية علي المطارات الليبية والقواعد العسكرية، إضافة إلي توغل بعض الوحدات المدرعة داخل ليبيا. ولم تدم الحرب أكثر من “أربعة أيام”، وانتهت يوم 24 يوليو 1977، وذلك بعد تدخل الرئيس الجزائري هواري بو مدين، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وتم عقد هدنة، وعادت القوات المصرية مرة أخري إلي أراضيها. وظلت العلاقات المصرية-الليبية متوترة حتي استشهاد الرئيس السادات، ثم تولي الرئيس مبارك حكم مصر. وفي مؤتمر القمة في الرباط عام 1989 تم التصالح بين مصر وليبيا، وعادت العلاقات، مرة أخري، بين البلدين. وللحق، فقد حافظ الرئيس مبارك، خلال سنوات حكمه، علي احتواء الرئيس معمر القذافي بشتي الطرق والوسائل، في إطار تأمين هذا الاتجاه الاستراتيجي الغربي، لما له من تأثير علي الأمن القومي المصري.
أما اليوم، فقد أصبحت ليبيا، للأسف، مركزاً للتجمعات الإرهابية في المنطقة، إذ تتجمع فيها خمس فصائل مختلفة من العناصر والتنظيمات الإرهابية، هم عناصر داعش الليبيين، والعناصر المتطرفة الهاربة من العراق، وأولئك الفارون من سوريا، إضافة إلي عناصر من جماعة بوكو حرام، وأخيراً أعداد هائلة من المتطرفين العائدين من أفغانستان… الذين لم يجدوا وطناً يؤويهم، ففروا إلي ليبيا، مستغلين حالة الفوضي، وعدم الاستقرار، والتنازع علي السلطات بين البرلمان المنتخب والحكومة والجيش الوطني بقيادة اللواء خليفة حفتر، وفي ظل انصراف المجتمع الدولي عنها. ومع ذلك تجد مصر تقف بكل قوتها ومساعيها الدبلوماسية لتحقيق الاستقرار علي الأراضي الليبية، لما لذلك من ارتباط بين أمنهما القومي، وهو ما دفع مصر لتنفيذ عمليات جوية خاطفة فوق الأراضي الليبية، بغية تأمين المصالح المصرية، في تأكيد لما ذكره الرئيس السيسي، من قبل، بأن القوات المسلحة المصرية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي نية لتهديد الأمن القومي المصري، من قبل العناصر المتطرفة الموجودة علي الأراضي الليبية.
وكما تؤثر ليبيا تأثيراً مباشراً علي الأمن القومي المصري، فاليمن له، أيضاً، تأثير مباشر آخر، من خلال وقوعه علي مضيق باب المندب، الذي يؤثر مباشرة علي مصدر ثلث الدخل القومي لمصر… قناة السويس. وأي تهديد لسلامة الملاحة في مضيق باب المندب، من شأنه التأثير، فوراً، علي حركة التجارة في قناة السويس، لذا فإن استقرار اليمن، يعتبر بعداً أمنياً لمصر.
ينطبق الموقف بالنسبة لسوريا والعراق، باعتبارهما امتداداً للأمن القومي المصري، هذا بالإضافة إلي القضية الفلسطينية، وضرورة التوصل إلي حل عادل وشامل يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما بذلت فيه مصر، ومازالت تبذل، الكثير من الجهود والمساعي من أجل الوصول إليه، بالرغم من وجود عناصر حماس في غزة، علي الحدود المصرية، وما تمثله تلك الحركة من تهديد مباشر للأمن القومي المصري، من خلال دعمها للجماعات الإرهابية في سيناء، والذي تعمل مصر علي استئصاله والقضاء عليه في القريب العاجل.
وأخيراً يأتي الدور القطري، كمثال آخر لتهديد الأمن القومي المصري خاصة، والعربي عامة، لما توفره من دعم بالأموال والسلاح والمعدات للجماعات الإرهابية بهدف زعزعة الأمن في المنطقة، فضلاً عما توفره من مأوي لتلك العناصر الإرهابية علي أراضيها. ودون الخوض في تفاصيل المقاطعة المفروضة علي قطر حالياً، فإننا نأمل أن تشهد الأيام القادمة نجاح الرئيس السيسي بالتعاون مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وباقي الأشقاء العرب بمجلس التعاون الخليجي، في توحيد الصف العربي من أجل الوصول إلي حل نهائي لتلك الأزمة، بما يضمن تخلي قطر عن سياساتها الداعمة للإرهاب بمختلف أشكاله وتنظيماته، والقضاء نهائياً علي جماعة الإخوان ونشاطاتها الإرهابية، وعودة الأمن والاستقرار إلي المنطقة.
كانت تلك لمحة عن أركان الاستراتيجية التي وضعتها مصر في التعامل مع الأشقاء العرب، بما يضمن سيادتها، وحماية أمنها القومي. وسوف نتناول، في مقالات لاحقة، باقي الاستراتيجيات التي تتبعها مصر في تعاملاتها مع دول قارة أفريقيا، ومع دول حوض النيل، وتلك التي تنتهجها مع دول حوض البحر الأحمر، ودول حوض البحر الأبيض المتوسط.