خبرات من البنتاجون
توليت إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، وكانت إحدى مسئولياتها هى مباشرة الإعلام العسكري، ووجدت، فى البداية، أن عملها فى هذا الاتجاه يقتصر على متابعة آداء السادة المحررين العسكريين، فى مختلف وسائل الإعلام، سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية، دونما إضافة، ودون أن يكون لها دور فعال ومؤثر.
فكانت تلك بداية الخيط، لأبدأ فى مرحلة تطوير فكر الإعلام العسكري، ولقد بدأت بنفسي، حيث اتصلت بالدكتور فاروق أبو زيد، رحمة الله عليه، الذى كان عميداً لكلية الإعلام بجامعة القاهرة، حينئذ، واتفقنا على أن يكون مشرفا على رسالتى للدكتوراه بعنوان دور الإعلام فى تحقيق الأمن القومي.
أما من الناحية العملية، فلقد توجهت لزيارة مبنى البنتاجون، وزارة الدفاع الأمريكية، للتعرف على أحدث أساليب إدارة الإعلام العسكري، فى الجيش الأمريكي، وبصحبتى اللواء أمين حسني. وخلال أربعة أيام قضيتها هناك، اطلعت على أدق التفاصيل فيما يخص الإعلام العسكري، وتأثير الحروب النفسية.
وفور عودتي، للقاهرة، بدأت التخطيط لإنشاء أول مركز إعلامى عسكري، فى الشرق الأوسط، على غرار ما يتم العمل به فى الدول الأخرى، بناءً على العلم والدراسات، وتأكيد تأسيسه بما يتناسب مع أسلوب وطبيعة عمل القوات المسلحة المصرية، والإعلام المصري.
وعرضت الفكرة على السيد المشير طنطاوي، فوافق سيادته، وبدأت العمل، على الفور، وتشاء الظروف أن يتم ذلك بالتزامن مع الطفرة الكبيرة فى مجال التكنولوجيا ونظم المعلومات، بظهور الإنترنت، ليصبح العالم مفتوحا أمام الجميع، بما لذلك من مميزات وعيوب.
وتم افتتاح المركز الإعلامى العسكرى المصري، بحضور السيد رئيس الجمهورية الأسبق، محمد حسنى مبارك، ونُقلت مراسم الافتتاح على الهواء مباشرة، لمدة ثلاث ساعات.
ومع بدء تشغيل المركز، انطلق العاملون، بالمركز الإعلامي، على شبكة الإنترنت، لجمع كل ما يهم مصر من معلومات، خاصة فى مجالات الأمن القومي. وخلال عدة أشهر، كان لدينا مخزون هائل من المعلومات، يفوق الخيال، خاصة أن العالم لم يكن منتبها، فى ذلك التوقيت، إلى وضع قيود على ما هو متاح وما هو سري.
فكان من أهم الوثائق التى حصلنا عليها، على سبيل المثال، وثيقة من سجلات البيت الأبيض، عن الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكى إلى مصر، وشملت هذه الوثيقة خطة الزيارة، والهدف منها، مقسمة إلى أربعة أهداف رئيسية، كان أولها هو إقناع الرئيس المصرى بالموافقة على إقامة قاعدة عسكرية أمريكية، فى رأس بناس، على البحر الأحمر.
كما شملت الوثيقة قائمة بأسماء جميع المسئولين فى الإدارة المصرية، مصنفة إياهم وفقاً لآرائهم ومواقفهم من سياسات الإدارة الأمريكية، بمعنى من منهم مع أو ضد تلك السياسات، أو على الحياد منها.
لم تقتصر الوثيقة على عرض جدول الزيارة، بل شملت سيناريو محكما لما هو مطلوب من الرئيس الأمريكى فى كل مرحلة من مراحل الزيارة، فحددت، على سبيل المثال، أن يقتصر حديث الرئيس الأمريكي، فور نزوله من الطائرة، ولقائه الرئيس المصري، وحتى فى أثناء التحرك بالسيارة إلى قصر الرئاسة، عن موضوعات عامة، مثل روعة الطقس فى مصر، وأحوال أسرة الرئيس، الذين تم ذكر أسمائهم ووظائفهم، حتى الأحفاد، بمعنى أن يكون الإطار العام للحوار شخصيا، دون تناول أى موضوعات ذات اهتمام مشترك بين البلدين.
وتعرضت الوثيقة للقاء الرسمى بين الرئيسين، والوفود المشاركة من الجانبين، والذى يتم خلاله مناقشة الموضوعات التقليدية، محذرة الرئيس الأمريكي، بعدم التعرض لموضوع القاعدة العسكرية الأمريكية، على الإطلاق، خلال اللقاء الرسمي.
وفى المقابل وضعت الوثيقة سيناريو محترفا عن كيفية إثارة ذلك الموضوع، ذى الطبيعة الحساسة، إذ حددت أن يتم تناوله فى أثناء مأدبة العشاء الرسمى الذى يقيمه الرئيس المصرى على شرف نظيره الأمريكي، وفى أثناء جلوسهما جنباً إلى جنب، أن يبدأ الرئيس الأمريكى حديثه عن الضائقة الاقتصادية التى تمر بها مصر، ورغبة بلاده فى تقديم حزمة من المساعدات الاقتصادية لمصر، فى صورة قروض ومنح، أو استثمارات جديدة ومشروعات تنموية، وأن يتم تقديم كل ذلك لمصر، فى مقابل الموافقة على إنشاء القاعدة العسكرية الأمريكية، فى رأس بناس، باعتبارها منطقة بعيدة عن العمران، بما يضمن عدم دخول جندى أمريكى إلى المدن الرئيسية، على أن تقوم الإدارة الأمريكية بمساعدة نظيرتها المصرية، فى إطلاق حملة إعلامية ضخمة لإقناع المصريين بأهمية وجود تلك القاعدة للحفاظ على الأمن القومى المصري، أولا، وقبل أى شيء.
وتسترسل الوثيقة فى ذلك السيناريو لعدة صفحات متتالية، على أن يختتم الرئيس الأمريكي، ذلك الحديث الجانبي، قائلاً، بأنه سيمهل الرئيس المصرى فرصة للتفكير، واتخاذ القرار. وتابعت خطة الزيارة جميع المقابلات الأخرى التى سجريها الرئيس الأمريكى مع المسئولين، والموضوعات التى سيتناولها فى كل لقاء، والهدايا التى سيقدمها خلال زياراته، والكلمات التى سيلقيها الرئيس الأمريكى فى كل مناسبة، بل وصلت التوجيهات إلى حجم وشكل الابتسامات وحرارة اللقاء فى كل مناسبة.
وبعد أشهر قليلة، تداركت جميع الجهات حول العالم، أهمية وضع قيود شديدة الصرامة على وثائقها، فأحكم البيت الأبيض، والبنتاجون، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، قيودهم على مواقعهم، إلا مكتبة الكونجرس الأمريكي، التى وضعت القيود على بعض الوثائق، وسمحت بالاطلاع على غيرها. وهكذا نرى أن العالم صار صغيراً، بهذه التكنولوجيا المتطورة، وأصبح الهم الشاغل للجميع الآن هو أسلوب حماية هذه المعلومات من المتطفلين، أمثال مراكز المعلومات، وغيرها.